خوارزمية تقرأ 7.9 مليون خطاب
في أغسطس (آب) 2025، نشرت مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences (PNAS) دراسة رائدة قادها الباحث غاراف كاماث (Gaurav Kamath)، طالب الدكتوراه في قسم اللسانيات بجامعة ماكغيل في كندا (McGill University)، بمشاركة كل من ميشيل يانغ، وسيفا ريدي، ومورغان سونديريغر، ودالاس كارد.
الذكاء الاصطناعي دقق نصوص الخطابات في الكونغرس الأميركي
وقد استخدم فريق الباحثين الذكاء الاصطناعي لتحليل ما يقارب 7.9 مليون خطاب أُلقيت في الكونغرس الأميركي بين عامي 1873 و2010. ولم تكتف خوارزميات التعلم العميق بالعدّ أو الإحصاء، بل غاصت في أعماق الكلمات، وتابعت بدقة كيف تغيّرت معانيها عبر الزمن.
وكانت النتيجة مدهشة: كبار السن لم يكونوا «متفرجين» على تطور اللغة، بل شاركوا فيه بقوة، أحياناً بتأخر بسيط عن الشباب، وأحياناً أخرى بسبقٍ واضح.
حين يسبق الشيوخ الشباب
خذ مثلاً كلمة «satellite» (القمر الاصطناعي) في حقبة الحرب الباردة، إذ يظن الكثيرون أن الشباب هم أول من تبنّى معناها الجديد المرتبط بالفضاء. لكن بيانات الدراسة أظهرت أن بعض السياسيين الأكبر سناً كانوا سبّاقين في استخدام المعنى الحديث قبل الجيل الأصغر.
وتكرر الأمر ذاته مع كلمات أخرى مثل «monitor» (الشاشة، المرقاب) و«outstanding» (المتميّز)، التي تغيّرت دلالاتها بمرور العقود. وقد رسم الذكاء الاصطناعي خريطة زمنية لهذه التحولات، أظهرت أن التغيير ليس «قافلة يقودها الشباب وحدهم»، بل تيار يشمل الجميع.
لغة تتحرك مع «روح العصر»
أوضح الباحثون أن التغير اللغوي ليس مقصوراً على جيلٍ دون آخر، بل هو جزء من «الروح الزمنية» (Zeitgeist) التي تسحب المجتمع كله معها. فكبار السن ربما يتأخرون قليلاً، لكنهم يلحقون بالركب، ويتبنون الكلمات الجديدة كجزء من تفاعلهم السياسي والثقافي.
وهذا الاكتشاف يعيد النظر في الصورة النمطية عن «جمود لغة المسنين»، ويثبت أن التغيير لا يشيخ.
ذكاء اصطناعي... لا يشيخ
المثير أن هذه النتائج ما كانت لتظهر لولا الذكاء الاصطناعي. فبفضل خوارزميات قادرة على تحليل ملايين النصوص ورصد الأنماط الدقيقة التي يستحيل على العين البشرية وحدها التقاطها، استطاع العلماء أن يرسموا مشهداً مختلفاً تماماً عن علاقة اللغة بالعمر.
بهذا المعنى، أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً معرفياً يفتح نافذة جديدة على التاريخ، ليخبرنا أن اللغة أكثر مرونة مما كنا نعتقد، وأن القدرة على التكيف لا تتوقف عند حدود الشباب.
من واشنطن إلى العالم العربي
ما يهمّنا في العالم العربي ليس فقط ما حدث في خطب الكونغرس، بل الدرس الأوسع: إذا كان الكبار يشاركون في صناعة لغة المستقبل، فلماذا لا نعيد التفكير في دورهم في صياغة لغتنا الإعلامية، التعليمية، وحتى التقنية؟
الذكاء الاصطناعي اليوم قادر على تحليل محتوى إعلامنا العربي، ورسم خرائط دقيقة لتحولات الكلمات والمعاني، إذ يمكنه أن يكشف كيف تغيّرت دلالات كلمات مثل «النهضة»، «الحرية»، أو حتى «التكنولوجيا» عبر العقود، ومن هم الفاعلون في هذه التحولات.
الخلاصة
إن دراسة جامعة ماكغيل لم تكشف فقط عن خبايا اللغة، بل أعادت إلينا احتراماً خفياً للزمن ولخبرات من تقدّموا في العمر. فقد تبيّن أن الكبار ليسوا «جدراناً صامتة» أمام لغة متغيرة، بل قوارب تبحر في النهر ذاته، وإن ببطء أحياناً.
اللغة، مثلها مثل الحياة، لا تعرف التقاعد. ومع الذكاء الاصطناعي، صرنا نملك الأدوات لقراءة هذا التدفق الهائل من التغيرات، وفهم كيف نصنع - جميعاً - معجم المستقبل.
حكمة المتنبي
وكما قال المتنبي في تمجيد دور العقل والخبرة: «الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ... هو أوّلٌ وهي المحلُّ الثاني»... وقال أيضاً في إعلاء قيمة الوفاء رغم تقدّم العمر: «خلقتُ الوفا، لو رحلتُ إلى الصبا... لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكياً».