كشف "إدوارد سنودن"، الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي، عن وثائق تؤكد تجسس الولايات المتحدة، عبر وكالاتها الأمنية، علي العديد من الزعماء والدول، وملايين المستخدمين عبر شبكات الاتصالات والإنترنت، وهو الأمر الذي فجر أزمة جديدة في العلاقات الدولية، وأزاح الستار عن طبيعة وكيفية إدارة الأنشطة السرية الدولية في الداخل والخارج، ومدي ارتباط تلك القضية بتوظيف أجهزة الاستخبارات الدولية للفضاء الإلكتروني في عملها، وعلاقة ذلك بتحديات إعادة تعريف الأمن القومي، وبدور الشركات التكنولوجية الكبري، في ظل بيئة جديدة يغلب عليها الصراع علي الاستحواذ علي المعلومات والمعرفة، والتي أصبحت رمزا للقوة والمكانة والثروة.
تصاعدت مخاطر العلاقة بين الأمن والتكنولوجيا في المشهد الدولي. وبقدر ما أسهم الفضاء الإلكتروني (1) في بروز مناح إيجابية للاستخدامات المدنية التي تحمل أهمية متعددة الأوجه، فإنها أتاحت الفرص كذلك للاستخدام غير السلمي ومظاهره، والتي منها ذو الطابع التخريبي، مثل الهجمات والحروب الإلكترونية، ومنها ذو الطابع المرن والمنخفض الشدة، كالتجسس وحرب المعلومات من جانب أجهزة الاستخبارات الدولية من أجل دعم أنشطتها السرية في جمع المعلومات من مناطق الاستهداف، ومعرفة توجهات الرأي العام في الدول المختلفة، والإحاطة بتوجهات القادة والزعماء، والنخب، ودوائر صنع القرار القريبة.
وأحدث الفضاء الإلكتروني ثورة في عمل أجهزة الاستخبارات الدولية، ودخلت في تحديد أهداف ومهام ومراحل تنفيذ الأنشطة الاستخباراتية، سواء تلك التي تتم في المجال الخارجي أو داخل الدول. واستفادت تلك الأجهزة بتوافر كم هائل من المعلومات، التي كانت تعاني في السابق شحا في مصادر المعلومات، وصعوبات في التحليل، وتزايد أهمية العنصر البشري في العمل الاستخباراتي.
وكان لتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصال دور في معالجة البيانات بأسرع وقت، وبأقل جهد، وبأقل تكلفة، والخروج من ذلك بتحليلات كمية سهلة تساعد في عمليات التحليل، وفي بناء التوقعات والتنبؤات المستقبلية، والمساعدة في النهاية علي طرح البدائل والخيارات المناسبة التي تسهم في عملية صنع القرار الخارجي.
وعلي الرغم من قدم الارتباط بين أجهزة الاتصال، وعمل الاستخبارات الدولية، فإن الإنترنت والاتصالات أحدثا تطورا جذريا في عملها، واتسعت دائرة تجنيد العملاء وتنسيق المهام، وانتقال التمويل، وتطوير وسائل الرصد والرقابة، وجمع المعلومات والتحليل (2).
وظهر مسرح جديد لحرب معلومات من نوع خاص يمزج بين بيئة جديدة وأداة غير تقليدية، في ظل بيئة أمنية يغلب عليها الشك وعدم اليقين، وتصاعد المخاطر فيما أطلق عليه "مجتمع الخطر". وأصبحت عملية الصراع حول معرفة ماذا، وكيف، وأين، ومتى هي سمة عصر المعلومات والمعرفة، والتي تعبر عن أوجه إلكترونية غير مسبوقة في شمولها، وعمقها، واختلافها، واتساع نطاق تغطيتها، فضلا عن فداحة أضرارها وذكاء منفذيها، وتعقد آلياتها. مثل ذلك ميزة استراتيجية لتوظيف الفضاء الإلكتروني في استراتيجية، الأمن القومي ودمجه في خطط الدول الاستخباراتية، والتي تتم عبر البرمجيات أو الأجهزة التي تصنعها الشركات التكنولوجية الكبري، أو عبر قدرات الدولة العلمية، التي عبرت عن انتقال العلوم المتقدمة من المعامل إلي تطبيقات أجهزة الاستخبارات الدولية.
وعلي الرغم من كل تلك التحديات المرتبطة بالرغبة في السيطرة المعلوماتية من قبل الدول الكبري، فإنه نمت بيئة موازية مستفيدة من التطور في حركة الإعلام العالمي، والمستند إلي الفضاء الإلكتروني في إحداث تحولات بشأن إنتاج وتدفق وحرية تداول المعلومات والمعرفة عالميا. وبرزت محاولات لاختراق أنشطة الدول السرية، وأبرز مظاهر هذا التيار تكوين جماعات طوعية تعمل علي كسر احتكار المعلومات وتدفقها للرأي العام العالمي من قبل نشطاء ليسوا مرتبطين بنمط من انماط ملكية وسائل الإعلام، أو مرتبطين بمصالح مع تلك القوي "المسيطرة"، وتتحرك فقط مستفيدة من التحول التاريخي في احتكار الدول لوسائل الإعلام، وبروز دور فاعلين من غير الدول في جمع ونشر مصادر المعلومات عبر الفضاء الإلكتروني. وبرز علي مستوي الجماعات دور حركة "أنينموس" التي تشن حملات ضد الدول الفاسدة عبر اختراق أنظمتها المعلوماتية، وتسريب معلوماتها. وعلي مستوي الأفراد، كان جوليان اسانج، مسرب وثائق ويكيليكس، الذي لعب دورا بارزا في تحدي الدبلوماسية الأمريكية. وانضم إدوارد سنودن، الموظف في وكالة الأمن القومي الأمريكي، لنادي المقاتلين من أجل الحرية، عبر كشفه عن وثائق تدين الولايات المتحدة بارتكاب عمليات تجسس ممنجهة ضد الدول والأفراد علي نطاق واسع وغير مسبوق تاريخيا.
هدد ذلك بعسكرة الإنترنت، لأن تداول أغلب البيانات علي الإنترنت يتم عبر خوادم أمريكية، وأيضا لأن الإنترنت اختراع أمريكي، وكان بالأساس أحد مشروعات وزارة الدفاع الأمريكية في عام 1985 (3)، والتي تطورت فيما بعد لتصبح شبكة عالمية مدنية، مستفيدة في ذلك بقدرتها الفائقة علي إنتاج التكنولوجيا وحجم التحالف حول مصالحها في الحصول علي المعلومات عبر الاختراق والتجسس والرقابة علي الدول الأخرى - الضعيفة أو المستهلكة - من أجل المساعدة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية. يأتي هذا في ظل تأكيد الساسة والمفكرين الأمريكيين فكرة أن السيطرة علي المعدات الجديدة للسلطة "التكنولوجيا، والمعلوماتية، والاتصالات، وأجهزة الاستعلام، وكذلك التجارة والمال" جميعها أمور لازمة حتما للاستمرار في الهيمنة الأمريكية، وهو ما يظهر في الهوس بالحفاظ علي القوة، أو بمنع، أو إعاقة تقدم أي دولة تنافسها، في ظل محاولات أخري من جانب دول صاعدة تحاول اللحاق بها بقوة كالصين وروسيا.
وتتبني الولايات المتحدة مشروعات كبري للتجسس علي الدول التي تراها تشكل خطرا علي أمنها ومصالحها الإستراتيجية، والتي منها ما هو سري، وما هو معلن، مثل "تحالف يوكوزا" المكون أعضاؤه من الدول الناطقة بالإنجليزية، ولكل منهم مهام لمراقبة أجزاء من العالم، ومشروع "ايشلون" وهو نظام عالمي مخصص لاعتراض معظم الإشارات الرقمية في أنحاء الكرة الأرضية، وتديره المخابرات الأمريكية، بالتعاون مع أجهزة مخابرات في أربع دول أخري هي بريطانيا، ونيوزيلندا، واستراليا، وكندا، بداية من اتصالات الأقمار الصناعية ونهاية بالحركة المختلفة علي شبكة الإنترنت، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني، والملفات التي يتم تبادلها عبر الشبكة، بالإضافة إلي مجموعة أقمار صناعية مخصصة لنقل فيضان البيانات اليومي إلي مراكز التحليل والفحص الأرضية (4).
"الصراع علي المعلومات الشخصية":
تهدف الولايات المتحدة من نشاطها الاستخباري، المستند إلي قدرات هائلة في مجال التكنولوجيا، إلي العمل علي توفير خدمات للجيش وأجهزة المخابرات الأمريكية، وتعزيز الأمن الإلكتروني، ومكافحة نشاط الدول الأخرى السرية، أو نشاط الجماعات الإرهابية، في ظل سعي الإدارة الأمريكية لإحياء مشروع قانون يسمح بتبادل المعلومات بين الحكومة والمؤسسات الصناعية حول التهديدات الإلكترونية، وفي إطار مواجهة محاولات الصين اختراق شبكات البيانات، وسرقة الأسرار الصناعية التي تكلف أمريكا مليارات الدولارات سنويا.
ويتميز الجهد الاستخباري الأمريكي بالضخامة من حيث الأجهزة أو الموظفون أو الميزانيات، مع وجود نحو 854 ألف شخص يحملون تراخيص أمنية بالغة السرية، بالإضافة إلي 1271 منظمة حكومية، و1931 شركة خاصة، ويجري العمل في عشرة آلاف موقع داخل الولايات المتحدة، و51 مؤسسة فيدرالية، ومركز قيادة عسكرية تعمل في 15 مدينة أمريكية. وتتشارك وكالات التجسس الداخلية والخارجية في 50 ألف تقرير استخباري كل عام، تتضمن تحليلا للوثائق والمكالمات. وتمت إعادة تشكيل وإنشاء ما لا يقل عن 20% من المؤسسات الحكومية الأمنية القائمة. وازداد عدد موظفي وكالة الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع من 7500 عام 2002 إلي ما يزيد علي 16500، وارتفع عدد فرق مكافحة الإرهاب التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي من 35 إلي 106 فرق (5).
وبلغت حالة الهوس الأمني لدي الأجهزة الأمنية حدا، وصلت فيه تطبيقات التجسس التي تستخدمها وكالة الأمن القومي الأمريكي إلي 1856 تطبيقا تجسسيا في عام 2012 فقط لهيئة الاستخبارات الأمريكية، وبموافقة المحكمة الفيدرالية، وبلغت ميزانية برامج التجسس 52.6 مليار دولار عام 2013 (6).
ويعد برنامج "بريزم" "PRISM" - الذي كشف عنه "سنودن" - هو الاسم الرمزي لمشروع تجسسي ضخم تديره وكالة الأمن القومي الأمريكية، وتشغله منذ عام 2007 في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش"، وشهد نموا ملحوظا في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما. ويهدف البرنامج إلي استخراج بيانات المستخدمين المخزنة ضمن أجهزة خوادم شركات إنترنت أمريكية كبري (7).
ويتيح هذا البرنامج لوكالة الأمن القومي والاستخبارات الأمريكية الحصول علي كافة المعلومات التي تملكها شركات الإنترنت، من تاريخ المحادثات، والصور، والأسماء، والملفات المرسلة، والمكالمات الصوتية، والفيديو وغيرها، وحتى أوقات دخول المستخدم وخروجه، وبشكل فوري، والوصول مباشرة إلي الخوادم المركزية لتسع علي الأقل من شركات الإنترنت الرئيسية ك - "جوجل، وفيسبوك، وآبل، وياهو، وإي أو إل، وسكايب، ويوتيوب، ومايكروسوفت" (8).
وعلي الرغم من نفي معظم تلك الشركات أن تكون قد سمحت للسلطات الأمريكية بالوصول المباشر إلي خوادمها، فإنها تراجعت عن ذلك تحت ضغوط الرأي العام، واعترفت بتلقي طلبات من الحكومات للحصول علي المعلومات حول مستخدميها (9).
وأول من شارك في برنامج "بريزم" شركة مايكروسوفت منذ انطلاقه في شهر ديسمبر 2007، ثم 2008، ثم جوجل، وفيسبوك، وبالتوك في 2009، ثم يوتيوب في 2010 وسكايب، وAOL في 2011، وشركة أبل في 2012 (10).
وتم استخدام أطر تشريعية مساندة لتعاون الحكومة الأمريكية، مثل المادة رقم 215 من قانون "باتريوت" الذي صدر بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي تسمح لمكتب التحقيقات الفيدرالية بالتجسس علي أي وسيلة تتعلق بأي مواطن غير أمريكي بمبرر مكافحة الإرهاب الخارجي دون إذن قضائي، ويتم ذلك عن طريق الشركات التجارية الأمريكية، في حين يتطلب تنصت وكالة الأمن القومي الأمريكي علي أي مواطن إذنا من محكمة مشكلة من ثلاثة قضاة، بمقتضي قانون المراقبة المخابراتية الأجنبية لعام 1978 (11).
وتسبب الكشف عن "بريزم" في حرج كبير للإدارة الأمريكية لعلاقته بالحريات المدنية، وهو ما دفع أوباما للاعتراف بوجوده، وعَّده جزءا من "مكافحة الإرهاب". وتم الدفع بأن ما يجمعه من بيانات هاتفية لا يتضمن أسماء، ولا مضمون المكالمات، ويستخدم لإجهاض العمليات الإرهابية، ويستهدف فقط غير الأمريكيين، وبحصول "بريزم" علي موافقة الكونجرس الأمريكي 13 مرة منذ 2009.
واستخدم "بريزم" في الرقابة الاستخباراتية المكثفة، خاصة عبر الشبكات الاجتماعية علي مواطنين من إيران، والأردن، ومصر، وباكستان، والهند، والسعودية، والمكسيك، والبرازيل، وفرنسا، وألمانيا، والنمسا، وغيرها من الدول، بالإضافة إلي التجسس علي 53 زعيما دوليا، والتجسس علي مقر الأمم المتحدة، والبنك الدولي وغيرهما ممن لم يتم الكشف عنه حتى الآن.
ويؤدي ذلك لتوغل نفوذ المؤسسات الأمنية الكبري المتعاونة أو المتحالفة مع الشركات المحتكرة للتكنولوجيا علي حساب الحريات، وفي ظل الارتباط الشديد بين المال والسلطة، واحتكار الشركات، وسيطرة ونفوذ الأجهزة الأمنية.
"أزمة الثقة وردود الأفعال":
اكتسبت قضية التجسس بعدها الدولي لاتساع نطاق عملياتها وضحاياها في العديد من دول العالم، وإلي الطابع العالمي للإنترنت والاتصالات الدولية. وجاءت عملية التجسس علي غير العادة في العرف الدولي بين حلفاء دوليين بالتجسس بين الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، وهو ما جعل من القضية أكثر إثارة، ومثل خطورة علي الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها، وسقوطا أخلاقيا جديدا للإدارة الأمريكية (12).
وقد مثل ذلك سابقة في العلاقات الدولية، بالنظر إلي كون عمليات التجسس تعد من الأعمال العدائية التي تتم بين الأعداء، أو كونها تعبر عن توتر في العلاقات بين الدول. وكشف ذلك من ناحية أخري عن تهادي الإجراءات الأمنية التي اتخذها الاتحاد الأوروبي لتطوير نظم اتصالات مؤمنه وفق مشروع SECOQC، وهو ما كان يعتقد أنه نظام لا يمكن اختراقه من أي برامج تنصت أو تجسس في العالم (13).
وعلي الرغم من الامتعاض الأوروبي الظاهري من التجسس الأمريكي، فإن ردود الأفعال الغاضبة جاءت لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام الداخلي لديها، ومنظمات حقوق الإنسان، وتعزيز الثقة في أجهزتها الأمنية، كما أن الواقع يشير إلي وجود مستويات للتعاون الاستخباري مع الولايات المتحدة. ولا يوجد توقع مستقبلي حول قطيعة أوروبية - أمريكية في ظل حاجة أوروبا المتنامية للولايات المتحدة لحسابات نمو التهديدات الداخلية والخارجية.
وأخذت ردود الأفعال الدولية حول فضيحة التجسس الأمريكي أشكالا متعددة، منها ما تعلق بالتنديد الرسمي من جانب الدول الكبري، بينما التزم عدد كبير من دول العالم الثالث الصمت، والتي كانت من أهم الضحايا لعملية التجسس. وفي القمة الأوروبية في بروكسل، التي عقدت في نوفمبر الماضي، تمت المطالبة بتأجيل التفاوض حول إنشاء منطقة حرة مع الولايات المتحدة، ووقف العمل بتبادل المعلومات عن المنظمات الإرهابية، والبحث في اتفاق خاص للتجسس مع الولايات المتحدة. وسعت ألمانيا من جانبها للتوصل لاتفاق تتعهد كل دولة بموجبه بعدم التجسس علي الدولة الأخرى (14).
وقد عبر ذلك عن ازدواجية في التعامل الدولي، وهو ما يعني أن التجسس علي غير الأوروبيين هو أمر متاح تحت مبررات مكافحة الإرهاب وتهديدات الأمن. وإذا كان الأوروبيون جادين في سعيهم لمواجهة التجسس الأمريكي، فقد كان لزاما عليهم تدويل القضية، والسعي إلي إجراءات من قبل الأمم المتحدة. إلا أن ضعف الموقف الأوروبي كشف عن وجود شراكات استراتيجية خاصة مع وجود بريطانيا ونيوزيلندا اللتين ترتبطان بعلاقات أمنية خاصة مع الولايات المتحدة.
وهناك محطات إقليمية للتجسس لصالح الولايات المتحدة، مثل دور قبرص ومالطا في البحر المتوسط، ودور استراليا في جنوب شرق آسيا، الي جانب اليابان في شرق آسيا، وإسرائيل في الشرق الأوسط، فضلا عن الانتشار الأمريكي في مناطق العالم المختلفة كقواعد عسكرية، وسيطرة الولايات المتحدة علي الممرات المائية الاستراتيجية، والتفوق الأمريكي في السيطرة علي الفضاء الخارجي وأقمار التجسس.
ومن جانبها، خاضت روسيا معركة سرية لدخول إدوارد سنودن إلي أراضيها، ومنحته حق اللجوء السياسي، والذي مثل لها أهمية معنوية وسياسية كبيرة، علي الرغم من عدم لجوء "سنودن" إلي إعطاء تسريبات إلي صحف روسية، بل تم تسريبها إلي مجلة "ديل شبيجل "الألمانية، و"الجارديان" البريطانية (15).
واحتجت الصين، وماليزيا، وإندونيسيا ضد مزاعم استخدام السفارات الاسترالية لمراقبة الاتصالات الهاتفية، وجمع المعلومات لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، وتم تنظيم العديد من المظاهرات الاحتجاجية في عدد من دول العالم (16).
وحاولت بعض الدول تبني سياسة حمائية ضد التدخل عبر السيطرة الأمنية للدولة علي نظم الاتصال والإنترنت، ومنع برامج الاتصالات الدولية، إلي جانب محاولة بعض الدول تطوير شبكة إنترنت خاصة، أو التقدم في مجال صناعة أمن المعلومات، من منطلق أن من يصنع التكنولوجيا هو وحده يستطيع التحكم بها. وبرز دور لمنظمات المجتمع المدني العالمي في شن حملات لوقف الرقابة والتجسس علي الملايين عبر العالم، واضطرار الشركات الكبري العاملة في مجال الاتصالات والإنترنت إلي إبراء ذمتها علي الأقل رسميا، عبر عرض مطالبات الأجهزة الأمنية للحصول علي المعلومات من خلال خوادمها، وهو لا يقلل من فرضية وجود تواطؤ بين الشركات الكبري والأجهزة الاستخبارية الأمريكية والحليفة معها، وأن الخلاف الأوروبي - الأمريكي إن هو إلا خلاف تكتيكي، وليس خلافا استراتيجيا حول تقاسم غنائم المعلومات الشخصية في العالم علي حساب أمن وسلم وحرية المجتمع الدولي.
وعلي الرغم من أن تقنيات جمع المعلومات والتجسس قد تكون مفيدة في تتبع الحركات الإرهابية أو الإجرامية، فإنها ليست كافية وحدها، بل هناك أبعاد أخري تدخل في إطار المواجهة، خاصة أنها لم تمنع وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001، أو تفجيرات بوسطن في أبريل 2013.
"البحث عن مخرج في أمن مفقود":
إن استخدام الفضاء الإلكتروني في تطوير واستخدام تقنيات الرقابة والتجسس بدون ضوابط يؤدي إلي تحولها لأدوات لانتهاك الحريات المدنية، والإضرار بالعلاقات الدولية، خاصة ان أجهزة الاستخبارات الدولية أصبحت تعاني تخمة في المعلومات، وضعفا شديدا في التحليل المستند إلي العنصر البشري، وهو ما يؤثر في كفاءة أدائها.
ويكشف ذلك عن تحول خطير في الاستخدام المدني لوسائل الاتصال والمعلومات، إلي الحد الذي أصبحت فيه تشكل خطرا علي الأمن القومي للدول والأمن الدولي بشكل عام عن طريق تحكم قوي كبري في المقدرات التكنولوجية، واستخدامها من أجل تعظيم مكاسبها وهيمنتها علي المجتمع العالمي.
يتنافي ذلك مع مقررات الأمم المتحدة الداعية إلي استخدام تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في دعم السلم والتنمية الدولية. وطرحت كذلك قضية تورط السفارات الأجنبية في عمليات التجسس، وتحولها إلي وكر للرقابة والتنصت علي الدول التي تعمل بها، الأمر الذي يعد مخالفة للمواثيق الدولية والقانون الدبلوماسي، وتدخلا سافرا في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وهو ما يتعارض أيضا مع ميثاق الأمم المتحدة. يتطلب ذلك أن تقوم الدول النامية بتعزيز قدراتها في مجال الحماية وصناعة أمن المعلومات، وتبني سياسات وطنية للربط بين التشغيل، والحماية، والصناعة، والكوادر البشرية (17).
ويعرض تسريب المعلومات الشخصية حياة المواطنين ككل للخطر، أو عبر تعاون الشركات مع الحكومات للحصول علي المعلومات الشخصية الخاصة بالمعارضين لنظم الحكم، وهو ما يجعله تعاونا سياسيا وليس جنائيا، ويظهر مثلا في شن سلسلة اعتقال لنشطاء عبر شبكات التواصل الاجتماعي في دول سلطوية، يتم بيع برامج مراقبة لها، أو بشراء تلك المعلومات من الشركات، أو عبر تعاون مع جهات أخري استخباراتية. ويكون مبرر هؤلاء هو أن منع الحكومة من التجسس علي مهددي الأمن القومي يمكن أن يساعد في نمو مصادر التهديد للأمن، وهو ما يؤدي لتقليص الحريات المدنية، وانتهاك الخصوصية، وتشجيع التجسس علي نشاط المستخدمين، مع إخفاء دور الفاعلين عن أعين الرقابة البرلمانية، أو القضائية، أو الرأي العام،
يعزز ذلك من أهمية تبني سياسة عالمية لحماية المعلومات الشخصية للمواطنين في جميع بلدان العالم، تلزم بها الشركات الكبري والدول، من أجل مواجهة "الشبكة العالمية للتجسس علي الدول"، التي تعد خرقا للقانون الدولي والمبادئ التي يجب أن تحدد سلمية العلاقات بين الدول.
يتطلب ذلك إجراء تعديلات جوهرية علي ميثاق الحقوق السياسية والمدنية الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1966، بحيث تشير المادة (17) من الميثاق إلي موضوع حماية الإنترنت والاتصالات، وأهمية قيام الأمم المتحدة باستحداث آليات متعددة الأطراف لحماية مستخدمي شبكة الإنترنت من التجسس، وأن تعتمد علي مبادئ أساسية، لعل أهمها ضمان حرية التعبير، والإدارة الشفافة والمتعددة الأطراف لهذه الآليات، وطابعها الشامل دون أي تمييز، والتعدد الثقافي دون فرض قيم علي الآخرين، وحيادية الفضاء الإلكتروني، بحسبانه مرفقا دوليا يدخل في مصلحة المجتمع الدولي قاطبة.
"الهوامش":
1 - يشمل مفهوم الفضاء الإلكتروني أغلب الأدوات التي تعتمد علي عملها في الموجات الكهرومغناطيسية، مثل الإنترنت، والاتصالات، والهواتف الذكية، والأقمار الصناعية وغيرها، والتي حدث دمج في وظائفها لتعبر عن مجال إلكتروني - يشمل تكنولوجيا الاتصال والمعلومات - والتي تعمل كوسيط لكافة التفاعلات البشرية.
2 - عادل عبدالصادق، "الإرهاب الإلكتروني: القوة في العلاقات الدولية. نمط جديد وتحديات مختلفة"، الفصل الثالث: أثر الفضاء الإلكتروني علي الصراع والأمن الدوليين، الطبعة الأولي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ص 174 - 182.
3 - افترضت وزارة الدفاع الأمريكية وقوع كارثة نووية، ووضعت التصورات لما قد ينتج عن تأثير تلك الكارثة في الفعاليات المختلفة للجيش، خاصة فعاليات مجال الاتصالات، وكان تحت اسم وكالة مشروع الأبحاث المتقدمة Advanced Research Projects Agency Network (ARPANET)، واستخدمت فقط في المجال الحربي.
4 - عادل عبدالصادق، الإنترنت "ساحة جديدة للتجسس الدولي"، دراسات، جريدة الأهرام، 5 مايو 2007:
http://www.ahram.org.eg - Archive - 5 - 5 - 2007 - OPIN.7HTM
5 - عادل عبدالصادق، ويكيليكس وتحدي عالم الاستخبارات الأمريكي، ملف الأهرام الاستراتيجي، أكتوبر 2010.
6 - انظر في ذلك موقع وكالة الأمن القومي الأمريكي:
http://www.nsa.gov -
وموقع المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني:
www.accronline.com
7 - Timothy B. Lee Here's everything we know about PRISM to date، washingtonpost، June 12، 2013.
8 - Ian Kar، Microsoft، Google & YouTube Join Facebook، Apple in Denying Involvement in Secret Program، heavy، June 6، 2013.
- Read more at: http://www.heavy.com - news - 06 - 2013 - prism - nsa - fbi - spying - program - internet - google - microsoft - youtube - facebook - apple -
9 - See How PRISM May Work، in This Infographic: http://mashable.com - 14 - 06 - 2013 - infographic - how - prism - might - work -
10 - Kurt Eichenwald، PRISM Isn't Data Mining and Other Falsehoods in the N.S.A. "Scandal"، vanityfair. June 14 2013.
http://www.vanityfair.com - online - eichenwald - 06 - 2013 - prism - isnt - data - mining - NSA - scandal
11 - صدر هذا القانون عام 1917، قانون مكافحة التجسس، ثم عدل في بنوده الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، لكي يزيد من حريته في استخدام هذا السلاح الفتاك ضد التسريبات غير المرغوب فيها، مثل تسريب أليسبيرج، وتسريبات ووترجيت.
12 - قامت أجهزة التنصت الأمريكية باختراق شبكة الاتصالات الإسرائيلية بهدف معرفة حقيقة خطط تل أبيب تجاه المفاوضات مع الفلسطينيين، واحتمالات ضرب إيران.
13 - عادل عبدالصادق، مرجع سابق ذكره، ص 179.
14 - Paul Ames، Will PRISM be the end of the EU - Obama love affair، globalpost، June 13، 2013:
http://www.globalpost.com - dispatch - news - regions - europe - 130612 - obama - european - union - prism - surveillance
15 - Jannis Bruhl، Why NSA Snooping Is a Much Bigger Deal in Germany، pacific standard magazine، August 26، 2013:
http://www.psmag.com - politics - nsa - snooping - much - bigger - deal - germany - 64953 -
16 - Spies And Politics: Cloaks Off، The Economist Nov. 3، 2013.
17 - عادل عبدالصادق، بعد فضيحة التجسس: نحو صناعة أمن معلومات عربية، مقالات، المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني، 30 أكتوبر 2013:
http://www.accronline.com - article_detail.aspxid= 17164