إلا أن العام 2025 حمل مفاجأة كبرى، عندما تحوّل الرجل فجأة من «قطب قواعد بيانات» إلى لاعب أساسي في صناعة الإعلام، وهذه خطوة أثارت قلقاً واسعاً بشأن تركّز غير مسبوق للسلطة الإعلامية في يد حفنة من كبار الأثرياء المتحالفين سياسياً مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
إمبراطورية إعلامية ناشئة
إليسون، الذي قفزت ثروته بين ليلة وضحاها بمائة مليار دولار عقب طفرة في أسهم «أوراكل» المرتبطة بصفقات الذكاء الاصطناعي، بات يملك نفوذاً هائلاً في صناعة الإعلام، وبالتالي، أروقة السلطة. فهو بجانب استحواذه عملياً على النسخة الأميركية من منصة «تيك توك»، التي تضم أكثر من 170 مليون مستخدم في الولايات المتحدة، يعمل نجله ديفيد على قيادة استثمارات ضخمة في شبكات «باراماونت» والـ«سي بي إس»، مع مفاوضات مستمرة لضم شركة «وارنر» الإعلامية، التي تضم أيضاً شبكة «سي إن إن».
وهكذا، قد تجد الولايات المتحدة نفسها قريباً أمام إمبراطورية إعلامية تضم منصات تقليدية ورقمية في آنٍ واحد، من هوليوود إلى تطبيقات الشباب، ما يثير تساؤلات حول طبيعة التغطية الإخبارية، والرسائل الإعلامية في مرحلة سياسية تتسم بالاستقطاب الحاد.
صفقة «تيك توك»
لا يمكن فصل هذه التحركات عن المشهد السياسي الأميركي، لأن صفقة «تيك توك»، التي فُرضت على الشركة المالكة «بايت دانس» الصينية لأسباب تتعلق بـ«الأمن القومي»، لم تكن لتكتمل دون مباركة مباشرة من الرئيس ترمب.
ومعلوم أن الأخير أشار في مقابلاته إلى أن مالكي «فوكس نيوز»، أو لاري إليسون هم «المرشحون الطبيعيون» لامتلاك التطبيق.
بعبارة أخرى، جرى توجيه واحدة من أهم منصّات الإعلام الرقمي لتصبح في أيدٍ متعاطفة مع الإدارة الجمهورية وحلفائها... وبالذات إسرائيل.
المؤرخ الإعلامي مايكل سوكولو علّق على الأمر قائلاً: «ما يميّز هذه الصفقات أنها عابرة للمنصات. إن القدرة على صياغة خط تحريري متجانس يمتد من (تيك توك) إلى الـ(سي بي إس) والـ(سي إن إن) أمر لم يحدث من قبل في التاريخ الأميركي الحديث».
وهذه الملاحظة تفتح الباب أمام مخاوف بأن تتحوّل إمبراطوريات الإعلام الجديدة إلى أدوات سياسية مباشرة، خصوصاً في سياق حرب ترمب المفتوحة مع وسائل الإعلام التقليدية، التي يصفها منذ سنوات بأنها «عدو الشعب».
رأس المال وحرية الصحافة
في الحقيقة، لطالما ارتبط الإعلام الأميركي بعائلات ثرية تركت بصماتها عليه في حقب مختلفة، من عائلتي بوليتزر وهيرست إلى عائلة مردوخ. لكن هذه القوى غالباً ما واجهت قيوداً وحواجز تنظيمية أو جغرافية حدّت من هيمنتها المطلقة.
أما اليوم، فإن ثراءً فاحشاً غير مسبوق، مدفوعاً بتقنيات الذكاء الاصطناعي والطفرة في أسواق المال، يسهّل على رجال أعمال مليارديرات، مثل إليسون، تجاوز تلك القيود والحواجز، ليغدوا قادرين على التحكّم ليس فقط فيما يُنشر على الشاشات والصحف، بل أيضاً في تدفق المحتوى عبر المنصات الرقمية التي باتت تشكّل وعي الأجيال الجديدة.
هذا التركّز الهائل للسلطة يثير مخاوف متصاعدة بشأن الحريات عموماً، وبالذات حرية الإعلام. فإذا كان الإعلام، في صيغته الكلاسيكية، يواجه تحديات من تراجع الاشتراكات وشحّ الإعلانات، فإن تحكّم ملياردير مقرّب من الإدارة السياسية بمنصات متعددة... قد يحوّل الإعلام من سلطة رقابية مستقلة إلى ذراع غير معلنة لخطاب سياسي محدّد.
شعار باراماونت (باراماونت بيكتشرز)
شعار باراماونت (باراماونت بيكتشرز)
الاستقطاب السياسي
معلوم أن الولايات المتحدة تعيش منذ سنوات حالة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي بلغت ذروتها في عهد ترمب. ومع الانتخابات المقبلة يتوقّع أن تبدو الانقسامات أكثر حدة.
في هذا الوضع لا يعود الإعلام مجرد مرآة تعكس الواقع، بل ساحة معركة حقيقية. وبينما وسائل الإعلام الليبرالية تواجه اتهامات من اليمين المحافظ بالتواطؤ مع «النخبة التقدمية»، تسعى الوسائل اليمينية المحافظة إلى تعزيز سردية «ترمب المخلّص» من الانهيار. ومن شأن دخول إليسون، اليوم، بقوة إلى الحلبة إضافة بُعد جديد... عبر رأسمال ضخم يتقاطع مع طموحات سياسية واضحة. وبالتالي، فإن أبرز ما يخشاه المنتقدون هو تآكل التنوع الإعلامي.
فإذا كان امتلاك «فوكس نيوز» من قِبل مردوخ قد منح الجمهوريين منصّة ضخمة لعقود، فإن الجمع بين شبكات كبرى ومنصات رقمية مثل «تيك توك» في يد حليف آخر قد يضاعف النفوذ إلى مستوى غير مسبوق. وهو ما دفع بعض المحللين لوصف هذا الوضع بأنه «احتكار سياسي-إعلامي» جديد، تُستخدم فيه قوة السوق لإعادة تشكيل الخطاب العام بما يخدم أجندة محددة.
أيضاً، يربط آخرون بين هذا التحوّل والهجمة المستمرة من إدارة ترمب على وسائل الإعلام التقليدية. إذ لم يتردد البيت الأبيض في إبعاد صحافيين منتقدين من المؤتمرات، أو في شن حملات كلامية أو حتى رفع دعاوى قضائية بمليارات الدولارات على كبريات الصحف، وتهديد بعض الشبكات بسحب رخصها، كما جرى أخيراً مع محطة «إيه بي سي»، وإجبارها على تعليق برنامج تلفزيوني، على خلفية اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك. وعليه، مع دخول إليسون إلى الحلبة، قد يصبح «التأديب الإعلامي» ليس مجرد خطاب، بل يصير واقعاً ملموساً مدعوماً بالبنية التحتية المالية، والتكنولوجية.
الإعلام الأميركي إلى أين؟
المفارقة أن صعود إليسون المذهل ترافق مع تراجع سريع أيضاً. فبعدما تجاوز حجم ثروته 393 مليار دولار، وصار لفترة وجيزة أغنى رجل في العالم، فإنه فقد نحو 34 مليار دولار خلال أيام فقط بفعل مخاوف «فقاعة الذكاء الاصطناعي» المرتبطة بصفقات «أوراكل» مع «أوبن إيه آي».
وهذا التقلّب يعكس هشاشة الأساس المالي الذي يقوم عليه النفوذ الجديد، وإن كان لا يبدّد المخاوف السياسية. إذ حتى لو تراجعت ثروة إليسون نسبياً، فإن سيطرته على مفاصل الإعلام لن تتراجع بالوتيرة ذاتها.
قصة إليسون، في العمق، تكشف عن تحوّل أوسع: الإعلام الأميركي لم يعُد صناعة قائمة بذاتها، بل غدا ساحة يتصارع فيها رأس المال، والسياسة، والتكنولوجيا. والتكتلات الجديدة تهدّد بتقويض مبدأ «حرية الصحافة» الذي كان ركناً للديمقراطية الأميركية، كما أنها تثير أسئلة كبرى حول مستقبل التعددية الإعلامية في ظل سيطرة حفنة من الأثرياء المتحالفين مع السلطة السياسية.
الرهان هنا ليس فقط على التوازن بين اليمين واليسار، بل على ما إذا كان يمكن للصحافة الأميركية أن تحافظ على استقلالها في عصر الذكاء الاصطناعي، ورأس المال الفاحش. وفي ظل الهجوم المتواصل من ترمب وحلفائه على وسائل الإعلام الليبرالية، فإن المخاوف من «عصر إعلامي جديد» تتحكم فيه قلة محدودة تبدو أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.