i_icon/   phone_icon   site_map
مقالات HTML Elements Reference

المقالات -
اسطورة الخروج اليهودي من مصر بين التوظيف الديني وواقع السياسة

: 57
السبت,6 سبتمبر 2025 - 08:57 ص
د. آية الهنداوي مدرس الدراسات اليهودية كلية الآداب - جامعة المنصورة.

منذ قرون طويلة ظلت قصة خروج بني إسرائيل من مصر كما وردت في التوراة واحدة من أكثر الموضوعات إثارة للجدل الديني والتاريخي والسياسي لما تحمله من معانٍ تتجاوز حدود النصوص المقدسة إلى تشكيل الهوية وتوظيفها في صراعات الحاضر. فالرواية التوراتية تقدم خروج بني إسرائيل من أرض العبودية إلى الحرية بوصفه لحظة فاصلة ارتبطت بالميثاق مع الإله على جبل سيناء وبالوعد بأرض الميعاد، لكن عند إخضاع هذه القصة للفحص التاريخي والأثري والنقدي يطفو السؤال المؤرق، هل حدث الخروج فعلًا أم أنه أسطورة صيغت لبناء وعي جماعي وترسيخ هوية قومية؟

اسطورة الخروج اليهودي من مصر بين التوظيف الديني وواقع السياسة
اضغط للتكبير

حيث إن التوراة في أسفارها الأولى تقدم صورة تفصيلية عن إقامة طويلة لبني إسرائيل في مصر يقدّرها سفر التكوين بأربعمائة سنة بينما يذكر سفر الخروج أنها أربعمائة وثلاثون. ثم يظهر موسى نبيًّا مخلّصًا يواجه فرعون ويقود شعبه عبر البحر الأحمر بمعجزة إلهية ليتوهوا أربعين عامًا في صحراء سيناء قبل أن يبلغوا جبل طور سيناء حيث يبرمون العهد مع الرب، وصولًا إلى أرض الميعاد. أما القرآن الكريم فقد تناول القصة بعمق ديني وروحي مسلطًا الضوء على الصراع بين موسى وفرعون والنجاة من الطغيان دون أن يحدد مددًا زمنية أو تفاصيل مطابقة للنص العبري وهو ما يعكس أن التركيز القرآني كان على البعد العقدي لا على التأريخ الزمني.

لكن المشكلة الكبرى تظهر عند مواجهة النصوص بالواقع الأثري. فحتى اليوم لم يعثر علماء الآثار على أي دلائل مادية تؤكد وجود بني إسرائيل في مصر كجماعة كبيرة أو على حدث جماعي بحجم الخروج. بالإضافة إلى أن المصريون القدماء كانوا من أكثر الشعوب حرصًا على تسجيل وقائع حياتهم وانتصاراتهم وحتى إخفاقاتهم، ومع ذلك لا نجد أثرًا واحدًا يشير إلى عبودية جماعية أو هروب عظيم يوازي ما ترويه التوراة. وصحراء سيناء بدورها لم تكشف عن شواهد لرحلة تيه استمرت أربعة عقود، وهو ما جعل كثيرًا من الباحثين ومنهم إسرائيل فنكلشتاين يجزمون بأن القصة لا تتجاوز كونها بناءً أسطوريًا وظيفته تعزيز الهوية الدينية في أزمنة لاحقة.

ورغم هذا الغياب الأثري لم تفقد القصة مكانتها في الخيال الديني اليهودي لأن الحاخامات التقليديون يؤكدون على قدسيتها التاريخية ويرون فيها حدثًا معجزًا تجاوز قوانين الطبيعة، بل إن طقوس عيد الفصح اليهودي كلها تقوم على إعادة إحياء ذكرى الخروج كأنها حدث معاصر. والتلمود وهو الكتاب التشريعي الثاني بعد التوراة يعزز هذه الرؤية أيضاً، ويعتبر أن كل يهودي مدعو إلى أن يرى نفسه كأنه خرج من مصر بنفسه، مما يحول الرواية إلى تجربة وجودية مستمرة تتجاوز حدود التاريخ إلى الوجدان الديني. وبالنسبة لهؤلاء فإن إنكار الخروج يعني إنكار لحظة التأسيس الأولى التي ربطت الشعب بالإله.

لكن على النقيض، جاءت أصوات أكاديمية يهودية معاصرة لتطرح رؤية مغايرة تمامًا. "فإسرائيل فنكلشتاين" في كتابه الشهير التوراة المكشوفة يؤكد أن الخروج لم يقع على أرض الواقع، وأن بني إسرائيل لم يأتوا أصلًا من مصر، بل نشأوا داخل كنعان نفسها وأن رواية الخروج صيغت في وقت لاحق أثناء الأزمات التاريخية لتوحيد القبائل المتفرقة وربطها بهوية دينية مشتركة. أما المؤرخ" شلومو ساند" فقد ذهب أبعد من ذلك معتبرًا في كتابه اختراع الشعب اليهودي أن فكرة الهجرة الجماعية من مصر مجرد أسطورة قومية استُخدمت لإضفاء عمق تاريخي على مشروع سياسي لاحق. هذه الطروحات خلقت جدلًا كبيرًا داخل إسرائيل نفسها لأنها تهز الأساس التاريخي الذي تقوم عليه السردية التوراتية.

وإذا كان الخروج مسار جدل بين الدين والتاريخ، فإنه لم يظل في حدود النصوص بل تجاوزها إلى عالم السياسة. فالحركة الصهيونية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر أدركت قوة الأساطير المؤسسة فعملت على إعادة توظيف قصة الخروج لتبرير مشروعها الإستيطاني في فلسطين. فإذا كان الرب قد أخرج شعبه من العبودية في مصر ليمنحهم أرض الميعاد، فإن العودة الحديثة إلى فلسطين ليست إلا إستكمالًا للوعد الإلهي. هذا المنطق جعل القصة أداة تعبئة سياسية وأيديولوجية تتكرر في الخطاب الصهيوني وفي الإحتفالات الرسمية، بل وحتى في خطاب زعماء إسرائيل الذين يقدّمون أنفسهم كامتداد لموسى ورفاقه.
وبن جوريون نفسه أول رئيس وزراء لإسرائيل كان يرى أن قصة الخروج ليست مجرد تراث ديني، بل دستور قومي يلزم اليهود بالعودة إلى أرض الميعاد وإقامة دولتهم.

هكذا تحولت الأسطورة إلى سلاح سياسي. وعندما فشلت الحفريات في العثور على أثر مادي للخروج نجحت الدعاية الصهيونية في توظيفها لتصوير اليهود كشعب عانى من النفي والإضطهاد والعبودية ثم عاد إلى أرضه التاريخية. الخطاب الصهيوني في المحافل الدولية يستدعي دومًا صورة موسى الذي يقود شعبه إلى الحرية ليوازي بينها وبين إقامة دولة إسرائيل الحديثة باعتبارها معجزة تاريخية بعد "الهولوكوست". بذلك صار الخروج رمزًا سياسيًا يتجاوز دلالاته الدينية ويعمل كأداة لتبرير الإستيطان والإحتلال أمام الرأي العام العالمي.

في مواجهة هذا التوظيف المكثف يظل الصمت الأكاديمي العربي مشكلة حقيقية. فبينما تنتج الجامعات الإسرائيلية عشرات الدراسات التي تعيد صياغة القصة بما يخدم مشروعهم السياسي، يكاد يغيب التفاعل العربي المنهجي مع هذه الأساطير المؤسسة. من هنا تأتي الحاجة الماسة إلى دعوة الباحثين المصريين والعرب إلى الدخول بقوة في هذا النقاش، ليس لمجرد الرد الديني، بل بتفكيك الخطاب عبر أدوات التاريخ والآثار والدراسات النصية. فالتاريخ المصري القديم يظل هو المرجع الأصيل الذي يمكن أن يقدم شهادة موضوعية إذ لو كان هناك خروج جماعي بهذا الحجم لترك أثرًا واضحًا في السجلات المصرية.

إن قصة الخروج سواء وقعت أم لم تقع تكشف لنا كيف يمكن للسرد أن يتفوق على الواقع. فهي بالنسبة للحاخامات معجزة إلهية تؤسس للإيمان، وبالنسبة للباحثين النقديين مجرد أسطورة قومية وبالنسبة للصهيونية الحديثة أداة سياسية لبناء شرعية. وما بين النصوص والآثار و بين الإيمان والبحث العلمي و بين الدين والسياسة تبقى القصة مثالًا حيًّا على أن الذاكرة قد تُصاغ بما يخدم الحاضر أكثر مما تعكس الماضي. إن إعادة قراءة هذه الرواية بهدوء ونقد علمي رصين ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل ضرورة لفهم كيف تُبنى الأساطير وكيف تتحول إلى وقود في صراعات معاصرة لا تزال مشتعلة حتى يومنا هذا.

وأوضح هنا أنه من بين النقاط التي قلّما تُطرح في النقاش العام أنّ الأسطورة التوراتية لم تكن يومًا مجرد سرد ديني أو نص تعبدي، بل تحولت إلى أداة سياسية متجددة تُستعمل كلما احتاجت إسرائيل إلى تبرير سياساتها أمام العالم. فعلى سبيل المثال، حين يواجه الإحتلال الإسرائيلي انتقادات متصاعدة في الأمم المتحدة أو في الرأي العام الغربي بسبب ممارساته في غزة والضفة سرعان ما يُعاد ترديد خطاب "شعب الله المختار" و"الأرض الموعودة" لتغليف الواقع الدموي بغطاء قدسي يربك النقاش الأخلاقي ويُحوّله إلى جدل لاهوتي بدلًا من كونه صراع حقوقي وإنساني بحت.

كما أنّ الإعلام الغربي المتأثر بكتابات المستشرقين في القرن التاسع عشر ساهم بدوره في إحياء هذه الروايات القديمة حيث صُوِّرت إسرائيل دائمًا على أنها استمرار مباشر لـ"إسرائيل الكتابية"، بينما تم تهميش الفلسطينيين بوصفهم "طارئين" على المشهد. هذه الصورة الذهنية لم تُبنَ صدفة، بل تشكلت نتيجة عمل دؤوب من المراكز البحثية والدبلوماسية الصهيونية التي ضخّت ملايين الدولارات في صناعة خطاب ثقافي يعيد إنتاج نفس الحكاية التوراتية بطرق عصرية عبر الأفلام والكتب والمناهج التعليمية الغربية.

والأخطر من ذلك أنّ هذه المرويات صارت حاضرة حتى في الخطاب الديني المسيحي الغربي خاصة بين جماعات "المسيحية الصهيونية" في الولايات المتحدة التي ترى في قيام دولة إسرائيل المعاصرة علامة على اقتراب "الخلاص" وعودة المسيح. وبذلك لم يعد الأمر مجرد جدل يهودي داخلي حول دقة النصوص، بل تحوّل إلى منظومة عابرة للأديان تدعم مشروعًا سياسيًا محددًا.

ومن زاوية أخرى، يعكس التوظيف الإسرائيلي لقصص الخروج والشتات نوعًا من "الهندسة التاريخية"، حيث يتم انتقاء أحداث بعينها وتهويلها في الوعي الجمعي، بينما تُطمس حقائق تاريخية موثقة مثل الوجود الفلسطيني المتجذر في الأرض منذ آلاف السنين. هذه الإزدواجية بين النص والواقع تكشف أن الهدف لم يكن يومًا إستعادة الماضي بقدر ما هو صناعة حاضر يخدم مشروعًا إستعماريًا قائمًا.

وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أنّ أصواتًا يهودية معاصرة بدأت تعلن رفضها لهذا التوظيف السياسي معتبرة أنّ استخدام النصوص المقدسة لإضفاء الشرعية على الإحتلال يُفقد اليهودية جوهرها الأخلاقي القائم على العدالة والرحمة. بعض هؤلاء المفكرين مثل "إيلان بابيه" و"شلومو ساند" وغيرهما يطرحون بجرأة أنّ الرواية التوراتية لا يمكن أن تكون صكّ ملكية على الأرض، وأن تحويلها إلى أداة قمع سياسي يتناقض مع أبسط المبادئ الإنسانية.


Share/Bookmark

accr2024

  • الذكاء الاصطناعي.. وجهاً لوجه مع الطبيب
  • صناعة المحتوى .. الثروة والقيمة والأثر
  • برنامج الدفاع الفضائي الياباني...يحمي مستقبل البلاد
  • الإعلام العبري وصناعة الأسطورة .. كيف تتحول النصوص المقدسة إلى ذخيرة حرب
  • رسوم ترامب و الانتقام الأوروبي
  • Facebook
    Comments
    el-doo2_text/
    accr2024/


    صناعة المحتوى .. الثروة والقيمة والأثر
    توفر صناعة المحتوى مصادر سهلة لجنى الأرباح، إلى جانب دورها المؤثر فى القلوب والعقول، وذلك فى مقابل ت

    آفاق الصراع السيبراني بين إسرائيل وإيران
    يتناول المقال البعد السيبراني في الصراع بين اسرائيل وايران ويركز على طبيعة الأنماط التي استخدمت وكيف

    التعاون الرقمى بين مصر والصين
    تتسم العلاقات المصرية - الصينية بالشراكة الاستراتيجية والتعاون المشترك فى كل المجالات، والتى من ضمنه

    hama
    موضوعات جديدة
    الأكثر قراءة
    الأكثر تعليقا
    الى اي مدى انت راض على اداء المنصات الرقمية في الحرب على غزة ؟
    راضي
    غير راضي
    غير مهتم
     
        
    التاريخ