فمنذ إندلاع الحرب الأخيرة على غزة تجنّدت القنوات العبرية مثل القناة 12، والقناة 13، وهيئة البث الإسرائيلي (كان)، إضافة إلى الصحف الكبرى كـ"يديعوت أحرونوت" و"معاريف" في صياغة خطاب موحّد تقريبًا "حرب وجودية" تستند إلى أساطير قديمة حول "شعب الله المختار" الذي يخوض معركة مقدّسة ضد "أعداء إسرائيل". هذه الرواية وإن بدت حديثة في صياغتها الإعلامية إلا أنها ضاربة الجذور في التراث التوراتي حيث يتم استدعاء قصص مثل يشوع بن نون وحروب الإستيطان أو داود في مواجهة الفلسطينيين لتبرير أي عدوان جديد.
وكان اللافت أن الإعلام العبري لا يكتفي بالخطاب السياسي أو الأمني البارد، بل يلبسه عباءة دينية تلمودية–توراتية، فيظهر المراسلون والمحللون وهم يقتبسون من سفر التثنية أو يشيرون إلى نبوءات أنبياء إسرائيل. على سبيل المثال، تُستحضر نصوص من سفر يشوع أو سفر صموئيل لتقديم الحرب باعتبارها استمرارًا لـ"المعركة الأبدية مع الفلسطينيين" وهكذا يتحول النص الديني إلى أداة تعبئة تخلق حالة من التقديس لأي قرار عسكري وتجعل من النقد الداخلي خيانة "لله" قبل أن يكون للدولة.
وأوضح من خلال ذلك أن من أخطر أدوات الإعلام العبري اعتماده على الأساطير لتصوير الفلسطيني ليس فقط كخصم سياسي أو مقاوم مسلح، بل كـ"امتداد تاريخي للعماليق والكنعانيين" الذين تصوّرهم الأسفار التوراتية كأعداء أزليين يجب محوهم. هذا التوصيف يزرع في وعي الجمهور الإسرائيلي قناعة بأن الحرب على غزة ليست مجرد نزاع سياسي حول أرض أو حصار، بل معركة كونية بين الخير والشر، بين "شعب الله" وأعدائه الأبديين.
حين تُقصف غزة وتُرتكب المجازر بحق المدنيين، يبرر الإعلام العبري ذلك بخطاب مموّه بالأسطورة مثل ، "كما أمر الرب يشوع أن يحرر الأرض من الغرباء"، أو "كما واجه داود جالوت". هذا الخطاب لا يكتفي بتسويغ العنف، بل يحوّله إلى واجب ديني ويغسل يد إسرائيل من دماء الأبرياء أمام جمهورها الداخلي، ثم يسعى لتسويق هذه السردية عالميًا عبر القنوات الناطقة بالإنجليزية مثل i24NEWS وJerusalem Post.
ويعتمد الإعلام العبري في تغطيته للحرب على غزة على مجموعة من الآليات الدعائية المتشابكة تبدأ بالتضخيم والتهويل عبر تصوير المقاومة الفلسطينية كتهديد وجودي يناطح "بقاء إسرائيل" رغم التفاوت الهائل في موازين القوة مرورًا بالإنتقائية التي تُبرز صور صواريخ حماس متجاهلة حجم الدمار والضحايا في غزة. وإلى جانب ذلك، يوظّف الإعلام النصوص التوراتية كسند رمزي لتأطير الحرب باعتبارها قدرًا مقدسًا يتجاوز الحسابات السياسية والعسكرية ثم يعيد إنتاج هذه الرواية بلغة أكثر نعومة في الخطاب الموجّه للخارج، حيث تُصاغ نسخة معدّة للإستهلاك الغربي تقوم على استجداء التعاطف باستحضار "الهولوكوست" وربطه بالواقع الراهن. وهكذا تتكامل هذه الأدوات في رسم صورة مشوّهة للصراع تجعل العدوان يبدو دفاعًا مقدسًا بدلًا من كونه إحتلالًا دمويًا.
وأري أن هذا الإستخدام للأساطير التوراتية لا ينفصل عن المشروع الصهيوني منذ بداياته. فالمؤسسون الأوائل –من هرتزل إلى بن جوريون– أدركوا أن الإعلام والدعاية لا تقل أهمية عن القوة العسكرية. واليوم، يواصل الإعلام العبري هذا الدور بتوظيف نصوص قديمة لتغذية قومية حديثة فيخلط بين الدين والسياسة وبين النص المقدس والآلة الحربية.
في المقابل، يدرك الفلسطينيون وحلفاؤهم أن كسر هذه السردية لا يكون إلا عبر فضح بنيتها الأسطورية وإبراز التناقض بين خطاب "الأرض الموعودة" والواقع الدموي للإحتلال. فالإعلام المقاوم العربي والعالمي المتضامن يعمل على إظهار غزة كرمز للإنسانية في مواجهة أسطورة زائفة تحاول إسرائيل بيعها للعالم.
كما أن الإعلام العبري في سياق الحرب الأخيرة لم يكتفِ بتمرير خطاب سياسي أو عسكري، بل أعاد إنتاج صورة الفلسطيني وفق الأساطير القديمة التي تربط بينه وبين "شعوب معادية" ورد ذكرها في التوراة مثل الكنعانيين والعماليق. هذه المقاربة تمنح العدوان على غزة بعدًا "تاريخيًا–دينيًا" يتجاوز حدود الجغرافيا والزمان ويزرع في وعي الجمهور الإسرائيلي شعورًا بأن ما يجري اليوم هو استمرار لمعركة أبدية لا تنتهي إلا بإقصاء الآخر.
ومن اللافت أن بعض الحاخامات البارزين مثل أولئك المنتمين للتيار الديني–القومي يطلّون عبر شاشات القنوات العبرية ليربطوا بين العمليات العسكرية الإسرائيلية ونصوص صريحة من سفر التثنية أو يشوع، حيث ترد وصايا "إبادة الأعداء". هذه التصريحات حين تُترجم إلى خطاب إعلامي تخلق حالة من التماهي بين الدين والسياسة وتُخرج العدوان من نطاقه القانوني والإنساني لتضعه في إطار "واجب مقدس".
كما يوظف الإعلام العبري خطاب البطولة حيث يتم تصوير الجنود الإسرائيليين كـ"أبطال توراتيين معاصرين" يخوضون حربًا نيابة عن الأمة كلها. هذا النمط الدعائي يُفرغ الحرب من سياقها السياسي الحقيقي ويحوّل الجنود إلى رموز أسطورية ويجعل أي انتقاد لأفعالهم خيانة للأمة والدين في آن واحد.
وعلى الجانب الآخر، تُغيَّب صورة الضحايا الفلسطينيين أو تُشوَّه عمدًا. فالمجازر توصف بأنها "أخطاء عرضية"، والدمار يُنسب إلى "حماس" بينما يُختزل الفلسطيني في صورة "إرهابي أبدي". هذه الإستراتيجية لا تكتفي بمحو الحقيقة، بل تهدف إلى تبرئة الضمير الإسرائيلي وخلق جدار نفسي يحول دون أي تعاطف إنساني مع غزة.
أما في الخطاب الموجَّه للغرب فتتغير اللغة لكن تظل الأسطورة حاضرة. إذ يتم الحديث عن "الشعب الصغير الذي يواجه أعداءً كثرا"، وعن "أرض الميعاد المهددة" وهي عبارات تستبطن خلفية توراتية واضحة. والهدف هنا هو استدعاء التعاطف الغربي خاصة في الأوساط الإنجيلية في الولايات المتحدة التي ترى في بقاء إسرائيل تحقيقًا لنبوءات دينية. وهكذا تتحول الأسطورة إلى أداة دبلوماسية بقدر ما هي أداة تعبئة داخلية.
وأشير إلي أن أخطر ما في هذا التوظيف الإعلامي–التوراتي أنه يُفرغ النصوص الدينية من بعدها الروحي والأخلاقي ليحولها إلى أداة سياسية تبرر العنف والإبادة. فحين تُستخدم نصوص مثل "محو العماليق" أو "طرد الشعوب من الأرض" في نشرات الأخبار أو التحليلات الإعلامية يتحول الدين من رسالة أخلاقية إلى سلاح نفسي يشرعن القتل ويجعل من الجرائم مشروعًا إلهيًا. هذا الإنزلاق لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد القيم الإنسانية ذاتها، لأنه يفتح الباب أمام منطق خطير. إذا كان النص المقدس قد أُعيد تفسيره ليبرر القصف والقتل الجماعي فما الذي يمنع غدًا من توظيفه لإقصاء أي "آخر" لا يتطابق مع الهوية الإسرائيلية؟
وإلى جانب هذه الآليات يتفنن الإعلام العبري في استخدام لغة المشاعر الجماعية لإستثارة جمهوره الداخلي. فكل تقرير ميداني لا يخلو من صور عائلات إسرائيلية مختبئة في الملاجئ، أو مقابلات مع جنود يودّعون أطفالهم قبل التوجه للجبهة، بينما تُحجب في المقابل صور العائلات الفلسطينية تحت الركام. هذا التلاعب بالصور والرموز يرسخ في وعي المشاهد الإسرائيلي والعالمي ثنائية مضللة وهي "إسرائيلي ضحية خائف" في مواجهة "فلسطيني معتدٍ"، ليُعاد إنتاج الأسطورة القديمة عن الشعب المحاصر الذي يقاتل من أجل البقاء. وفي هذا السياق، تتحول الكاميرا إلى أداة أيديولوجية لا تقل خطورة عن المدفع أو الصاروخ.
وختاماً ، أوكد أن الإعلام العبري لا يكتفي بنقل الأخبار أو تغطية العمليات، بل يمارس دورًا أيديولوجيًا عميقًا يربط السياسة بالأسطورة، والواقع بالنص التوراتي.
إنه إعلام يقدّم الحرب على غزة باعتبارها "معركة توراتية" تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، لتصبح صراعًا مقدسًا. ومن هنا تكمن خطورته إذ يحوّل الأسطورة إلى سلاح والدين إلى ذريعة والعدوان إلى واجب إلهي. ومواجهة هذا الخطاب لا تقل أهمية عن مواجهة الطائرات والدبابات لأن الحرب على غزة ليست فقط حرب دم ونار، بل أيضًا حرب كلمة ورواية وأساطير.