«ومن المفارقات المحزنة لهيمنة النمط الاستهلاكي على المعرفة الإنسانية أنَّ سجل الثقافة الذي كان يقوم على مؤهلات علمية حقيقية ترمز إلى مراكمة هضاب من المعرفة التراكمية والتجارب الإنسانية القاسية ويُنظر إليها بوصفها معياراً للاستحقاق الوظيفي وشاهداً على المكانة الاجتماعية مُسِخت في عالم فاشنيستا الثقافة، فحلت محل المؤهلات العلمية وخبرات التخصص المعرفي، عروض الأزياء الفكرية، حيث حلَّ المؤهل الجسدي مكان العمل الذهني، والشكل محل الروح، وحلّت الشهرة بدلاً من المعرفة، والهاتف مكان الكتاب، والإعلام محل الجامعة، والقاعدة الشعبية بديلاً عن السجل الأكاديمي، والظهور الإعلامي محل المجلات العلمية، وحلَّ الموضوع مكان الذات، وأضحت تعاملات السوق بديلاً لمداولات ومهارات التفكير».
بيدَّ أن الحقيقة أكثر تعقيداً مما يبدو للوهلة الأولى، إذ إنّ الآلة الضخمة للإنتاج الرأسمالي الاستهلاكي لم تقتصر على تزييف وعي المثقف والنخب الأكاديمية فحسب، بل تجاوز تأثيرها إلى تهديد الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، وإحداث تدمير منهجي في الإنسان ذاته، بالإضافة إلى تفكيك منظومة القيم الأخلاقية برمتها. ففي سياق الرأسمالية التقليدية، كانت ركائز الإنتاج تتمثل في الأرض، والعمل، ورأس المال الثابت والمنقول، وقد لعبت دوراً محورياً في دعم الاقتصاد الوطني من خلال المساهمة في تعزيز ميزانيات الدولة، وتنمية إمكاناتها الصناعية، علاوةً على تقليص معدلات البطالة، وتحسين مستويات الرفاهية الاجتماعية. وعلى النقيض في عصر مشاهير ومشهورات التواصل الاجتماعي، حيث انتفت هذه العناصر الأساسية. فلا الأرض، ولا رأس المال، ولا العمل كانت مصادر وفواعل حقيقية في شهرة كثير من هؤلاء المشاهير والمشهورات. وإنتاجهم الحقيقي لم يرفد اقتصاد الدولة بأي قيمة مضافة أو أي موارد حقيقية. فطبيعة رأس مالهم وأعمالهم الحقيقية تجسدت في استعراضهم الجسدي، وإيحاءاتهم الحسية، ولفت الانتباه لمفاتنهم الشكلية، أو المبالغة في عرض حياتهم الشخصية والعائلية أمام الجمهور، أو المباهاة بثرواتهم وممتلكاتهم وعلاقاتهم البرجوازية الخاصة. وكل هذه المجهودات الاستعراضية والإيحائية لم تسهم في إثراء المجتمع بأي دلالات ومعانٍ أخلاقية، أو رفده بموارد فكرية، أو إضافة مكاسب مادية تُعزّز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وفي الواقع فإن هذه الإشكالية تتجاوز الجوانب الاقتصادية لتترك آثاراً عميقةً على البنية الاجتماعية. تكمن خطورة هذه الظاهرة في الدور المتعمد للفضاء الرقمي المعولم، الذي يعتمد على حسابات إلكترونية تسويقية معروفة، وخوارزميات موجهة تستهدف تكثيف الحملات الإعلامية لترويج نماذج «الشخصيات الرقمية» لمشاهير ومشهورات وسائل التواصل الاجتماعي. وتعمل هذه الحسابات والحملات على تسويق هذه الشخصيات «كقدوات اجتماعية» للجيل الجديد، مقدمة إياهم باعتبارهم معياراً ونموذجاً لاستحقاقات الجمال، والنجاح، والشهرة، والتملك، واكتساب الثروات بشكل سريع ودون جهد حقيقي، بالإضافة إلى تقلد المناصب العليا، وكل ذلك على حساب القيم الكبرى مثل المعرفة العلمية، والإنجاز الشخصي، والعصامية الحقيقية، والتجارب المؤلمة، والقاسية. وهذه الممارسات تؤدي تدريجياً إلى انزلاق المجتمعات نحو حالة من التردي والانهيار القيمي، خصوصاً عندما يحتل المشهد العام أفرادٌ يفتقرون إلى القيم الأخلاقية، والعمق الفكري، كالتافهين والتافهات ممن يُطلق عليهم وصف «الرويبضات أو السفسطائيين الجدد»، فيصبح هؤلاء رموزاً يحتذى بها. والمشكلة الكبرى تظهر عندما يعمد المجتمع إلى نمذجة وترميز وتسليط الضوء على هذه النماذج السطحية وجعلها قدوة للأجيال الجديدة، التي تسعى بلا وعي إلى تقليدها وإعادة إنتاج صورها، دون فهم معمق أو تحليل نقدي لأصل هذه الشخصيات وأهدافها التسويقية الرأسمالية، التي غالباً ما تكون مجردة من أي إطار أخلاقي أو قيمي.
وعند التعمق في هذا البعد الأخلاقي والقيمي الذي يحكم تصرفات مشاهير ومشهورات وسائل التواصل الاجتماعي، يتضح أن المعيار الذي يحدد سلوكهم ومفهومهم عن الحياة يرتكز بشكل كبير على السعي المفرط وراء المال والشهرة، دون اهتمام بالمبادئ الأخلاقية التي تتنافى مع تلك الغاية النفعية. فالمتابعون والمتابعات بالنسبة لهم مجرد وسائل وأدوات استعمالية للوصول إلى هذه الأهداف الانتهازية. وفي سبيل هذا الهدف، يصبح التزييف جزءاً من المشهد العام: ابتسامات متكلفة، وقصص جوفاء، وثرثرة فارغة، وسطحية في الطرح والمعرفة، ونشر الشائعات، واستعراض تسليعي للجسد، والترويج لكل منتج أو فكرة لا تتماشى مع القيم الإنسانية السامية. وبسبب الرصيد الكبير من المتابعة الجماهيرية تعزز لدى البعض شعور الغطرسة والتعالي، ما جعلهم يوهمون أنفسهم بأنهم فوق القانون، ومحصنون من المساءلة الأمنية، واعتبار مبدأ المساواة أمام القضاء مجرد مفهوم ميتافزيقي لا ينطبق عليهم. ولعل هذا التصور والشعور النفسي الذي يغمر أنماط هذه الشخصيات يعود إلى الإحساس بأن قيمتهم الحقيقية تعتمد على عوامل خارجية مثل تقلبات السوق، والقاعدة الجماهيرية العريضة، بدلاً من القيم الداخلية التي تنبع من الكرامة الشخصية، والاحترام الذاتي، والعمق الفكري. وهذا ما يفسر هوس الكثير منهم في «الإفراط بالبحث عن الاهتمام » في الفضاء الخارجي الرقمي، لا الاكتفاء برصيد الحب الداخلي في دوائر العائلة والصداقات البسيطة. وبهذا المعنى تتحول المشاعر الإنسانية إلى مجرد «سلعة محددة الصلاحية» يمكن مقايضتها بالحب الخارجي الوهمي، حيث تقاس قيمتها بمنفعتها التسويقية بدلاً من النظر إلى أن هذا الحب والاهتمام والرعاية قيم أصيلة وجوهرية في ذاتها وغير مشروطة بقيمتها التبادلية. فالإنسان في نظر هؤلاء لا يمثل هويته الحقيقية بأفكاره ومبادئه، بل ينحصر وجوده «كمتابع رقمي»، وقيمته تنبع من القدرة على مبادلته والانتفاع التسويقي به في مجالات الدعاية والإعلام والشهرة، متجرداً من أي فضائل أخلاقية أو جوهر إنساني حقيقي.
ومن العدالة والإنصاف الإقرار بأن السبب الرئيس خلف تضخم الذات وانتفاخ الأنا لدى مشاهير ومشهورات مواقع التواصل الاجتماعي يكمن في هيمنة وعي القطيع الغرائزي الذي يطبع إرادة المتابعين والمتابعات. إذ إن اتخاذ قرار إلغاء متابعة هؤلاء المشاهير يشبه الدبوس الذي يخترق البالون المنتفخ للذات مما يؤدي إلى تفريغ محتواهم العبثي، وشطب وجودهم الرقمي، وقدرتهم على التأثير الجماهيري. غير أن الإحساس بالعجز عن بلوغ منصات الشهرة وتحقيق الثراء السريع من خلال الجهود العصامية والكفاح المُلهم دفع البعض إلى الانضواء تحت مظلة هذا السلوك الجمعي الغرائزي والامتثال الأعمى لإرادة المجهول عند مشاهير ومشهورات التواصل الاجتماعي، بعيداً عن التفكير النقدي المستقل. وبسبب ذلك أصبح التساؤل لدى المتابعين والمتابعات لا يدور حول ما إذا كان سلوكهم الاجتماعي معيارياً وقيمياً، ومبنياً على صوابية وخطأ الفعل الإنساني، بل أصبح مرتكزاً على السلطة الرمزية لإرادة المشاهير والمشهورات الذين باتوا يصوغون معايير الحق والمعرفة والجمال والحكم القيمي وفق أنماط مبتدعة تخدم موقفهم التسويقي المهيمن على وعي المجتمع. ونتيجة لذلك، أضحى الجيل الجديد يتماهى في الشكل والمظهر الخارجي وحتى في القرارات التي تتعلق بالضمير الأخلاقي الداخلي مع هذه «الشخصيات الرقمية»، بعد أن نجحت في التحكم في وعيهم من خلال أدوات الشهرة والانتشار. ولذلك لم يعد مستغرباً وجود حالة من المساواة الكلية في تصدر التفاهة والانحطاط القيمي قوائم العناوين الرقمية، وغياب الطروحات العميقة لتحل محلها السطحية المعرفية التي باتت تسيطر على الحوارات الاجتماعية والثقافية. ويرجع ذلك كله إلى تماثل وعي القطيع وصيغ الإدراك الحسي لدى الأفراد الذين باتوا يتخلون تدريجياً عن فرديتهم الإنسانية لأجل مصالح «قادة القطيع الرقمي» وآلياتهم التسويقية والترفيهية. والمؤسف في هذا الشأن أن من يختار العزلة عن هذا الوعي الجمعي يُوسم غالباً بالاختلاف أو يُعتبر شاذاً عن المألوف، نتيجة لانحراف ميزان القيم الإنسانية باتجاه معايير العرض والطلب الاقتصادي، واستبدال الأهداف اللحظية والإيقاعات السريعة بالمبادئ الكبرى.
وإن كانت هذه الظاهرة إنسانية وعالمية ولا تقتصر على مجتمع محدد، إلا أننا جزء من هذا العالم. ولذلك ينبغي أخذ الحيطة والحذر من غرق هذا الجيل الجديد في مستنقع أكثر عمقاً في الانحطاط الاجتماعي والثقافي والأخلاقي. ومن هنا تبرز أهمية أصحاب الوعي والاختصاص بالإسهام في توسيع دائرة «الذوق العام» ليشمل ممارسات الفضاء الرقمي الذي يشكل ويصوغ الوعي والسلوك المجتمعي بصورة أكبر من التفاعلات الإنسانية التي تحدث في مجالات الواقع اليومي الحقيقي والمعاش.