لا أستطيع الجزم بصدى هذا الحراك، لكن وجود هذه الومضة تعطي الأريحية بتجاوزنا عقبات كبَّلت الوعي المجتمعي من البناء، وأعطت المساحة اللازمة للتفاعل بنهج متفرد في خطابنا الإعلامي، الثقافي، الاجتماعي، الاقتصادي، وحتى السياسي. والأهم من ذلك كله هو ترابط هذا النسيج للدفع بعجلة التنمية نحو آفاق كبرى. هذا الانصهار بالجوهر قاد مرحلة التغيير التي نعيشها اليوم.
ولا شك أن ما نقله فهد الشقيران في مقالته بهذه الجريدة قبل أيام معلّقاً على بريندي الذي كتب مقالةً بـ«نيويورك تايمز» تحتوي على نقطتين؛ الأولى معاني الرؤى والتصورات حول الشرق الأوسط الممتد على مساحة 7 ملايين كيلومتر مربع، وحصر تاريخها ونهضتها في كلمتَي «فوضى» والمحيط «المشوش».. والنقطة الأخرى في حديثه عن العالم الجديد الذي بدأت تتشكل ملامحه مع التقدم السريع في التقنيات الحديثة، وأبرزها الذكاء الاصطناعي التوليدي. وأرى أنه من الفضيلة تجنب محاولة تصحيح انطباعات فضفاضة مهما ساءت؛ كونها لا تتعدى قشرةً تسقط مع أول نقاش عملي وبيّنة حقيقية، لكن علينا الالتفات إلى أننا نسبح في محيط شائك رغم اختلاف العمق والوجهة.
والحقيقة، كما ذكر بريندي، أن «النظام الحديث لا يمكن أن يبنى على لبنة الماضي رغم الدروس المستفادة؛ لأن تكرارها أصبح مسرطناً وغير قابل لإحياء نفسه. لكن الفرصة تكمن في وضع نقطة أساس تجمع في ضوئها واقع الحال للتفكير الريادي وفهم الانطباعات والشعور الحقيقي الذي يتبع كل إنجاز وانتصار تنموي يجمعنا حول «واحة النهضة».
الكثير يتشكل مع هذه النقطة، ومنها مواقف دول كبرى ومشاريع ثقافية وعمرانية وتوجهات تثري البنية الاقتصادية وتحمي مناعتها عما دونها. والواقع أننا نتشكل من جديد في خطابنا بلغة سلسة ورصينة يصعب اللحاق بها ومجاراتها. وجُلُّها يعود للثقافة وإضاءاتها المستفيضة على منطق الفرد والمجتمع والطريقة التي نتعامل بها مع التحديات القائمة وتقاطعاتها مع الآخرين.
وقد تحمل نقطة انطلاق صناعة الذكاء الاصطناعي للمنطقة فرصاً نوعية للتمازج مع النظام الحديث منذ النشأة وبانسياب مع تدفق لغتنا الخاصة، وهي خاصية لم نحظَ بها إبان الحرب العالمية الثانية وتشكيل قوى التعاون التي اعتلت منابر الأمم المتحدة، لكنها موجودة الآن في إطار وسياق مختلفَين، ونحن على يقين أن هذه الصناعة ستكون شبه مستحيلة للتحقيق من دون دخول دول الخليج باستثماراتها ومواردها الطبيعية ومعادنها الدقيقة في صلب الرقائق المنتجة. فالاتحاد الأوروبي في مأزق حقيقي ما بين استراتيجية تنموية متشعبة بيئياً قد يصعب تحقيقها من دون تدخل موارد طبيعية، منها طاقة التوليد الكهربائية المستخرجة من الطاقة المتجددة لتشغيل مراكز البيانات والذهب الأبيض المصفى «الليثيوم» من السعودية، المكون الرئيسي في صناعة الرقائق الإلكترونية والدافع لعجلة تطور الذكاء الاصطناعي. ستُسهل هذه الشراكات إيضاح حقائق عن خبرات محلية متراكمة في الإنتاج والتكرير والتصدير والتسويق وفوقها طول النفس الدبلوماسي، الذي أدارته صناعة الطاقة والنفط بعناية على مدار 4 عقود مع «أوبك» وغيرها. ومنها سندخل على جبهات أخرى مع التنافس المحتّد ما بين الولايات المتحدة والصين في الاستحواذ على هذه السوق. وهي معارك جديدة ستخوضها الدبلوماسية التجارية في حينها، لكن قد يكون من أهمها الآن تأصيل الأدوار التأسيسية للصناعة منذ النشأة واستشراف هذا المستقبل ثقافياً وسياسياً وتجارياً لما له من تبعات على التواصل خلال العقد المقبل.
أؤمن بأن تصدير الثقافة المجتمعية له عوائد قد تفوق العوائد التجارية ومكملة لها في الوقت الذي تتموضع فيه لبنة التكنولوجيا الحديثة، وتتشكل منها ملامح المرحلة المقبلة، فمن المتوقع أن تسهم الآلة في تجسير الهوّة وتقريب وجهات النظر، وكلها في حاجة إلى الانكشاف المطلق والتمثيل الحي لخصائص أصيلة، ولعها تكتسب ربع خصائص الصحراء وواحاتها وأوديتها وجبالها ونقلها للعالم للإفادة والتروي.