هذا المفهوم لا يشير الى منظومة تسليحية بعينها بقدر ما هو استراتيجية شاملة تهدف الى منع القوات الأمريكية من دخول مسارح عمليات حيوية (Anti-Access) أو تقليص حريتها في المناورة داخلها (Area Denial). وتتحقق هذه الاستراتيجية عبر مزيج من الدفاعات الجوية بعيدة المدى، الصواريخ المضادة للسفن، القدرات السيبرانية، والغواصات الهجومية، إضافة الى استخدام الأسلحة الفرط صوتية لفرض نطاقات حرمان واسعة، لخلق "فقاعات عملياتية" مغلقة تحوّل أي محاولة للاختراق الى مخاطرة استراتيجية باهظة الثمن.
هذه البيئة العملياتية شديدة التعقيد فرضت على الولايات المتحدة إعادة النظر في عقيدتها العسكرية التي اعتمدت تاريخيا على منصات عالية القيمة مثل حاملات الطائرات والقاذفات الاستراتيجية. فهذه الأصول باتت أهدافا يمكن تحييدها أو استنزافها في بيئات A2/AD عالية الكثافة. ومن هنا ظهرت الحاجة الى مقاربة جديدة تتجاوز الحدود التقليدية للردع وتعيد للولايات المتحدة مرونة المناورة العملياتية. في هذا السياق برزت عقيدة السرب الذكي (Swarm Doctrine Smart) كإطار استراتيجي جديد يزاوج بين الذكاء الاصطناعي، التشغيل الشبكي، والأنظمة غير المأهولة منخفضة الكلفة. ويعد برنامج Gremlins الذي تطوره وكالة DARPA أحد أبرز تجليات هذا التحول في التفكير العسكري الأمريكي.
ومن النقاط المهمة التي يركز عليها مصممي مشروع Gremlins هي التكلفة المنخفضة و إمكانية استعادة الطائرات بلا طيار بواسطة طائرات النقل من خلال ذراع آلية يتم إنزالها لتستعيد الدرونات جواً و تعيدها للقاعدة حيث ستقوم الطواقم الأرضية بإعادة تجهزها للعمل مرة أخرى خلال 24 ساعة .. و يمكن لهذه الذراع الآلية استعادة 4 طائرات Gremlins جواً خلال 30 دقيقة فقط ويمكن إعادة استخدام درونات Gremlins حتى 20 مرة .
وبرنامج Gremlins ليس مجرد تطوير تقني لطائرات مسيّرة جديدة، بل هو فلسفة عملياتية متكاملة تسعى الى إعادة صياغة ميدان القتال الجوي، إذ يقوم البرنامج على إطلاق أسراب كثيفة من الطائرات غير المأهولة صغيرة الحجم من منصات متعددة – تشمل طائرات النقل، القاذفات، وحتى السفن – لتنفيذ مهام الاستطلاع، التشويش الالكتروني، وضرب أهداف استراتيجية في العمق المعادي. ما يميز هذه المنظومة هو قدرتها على استرداد الطائرات بعد تنفيذ المهام وإعادة استخدامها، وهو ما يعزز معادلة الكلفة-الفعالية ويجعلها خيارا أكثر مرونة واستدامة من الأنظمة أحادية الاستخدام.
على المستوى العملياتي، يمكّن Gremlins القوات الأمريكية من تحقيق التشبع العددي (Saturation Mass) ضد الدفاعات الجوية المعادية. فإطلاق أعداد كبيرة من المسيّرات في وقت واحد يربك منظومات الإنذار المبكر، يستنزف القدرات الاعتراضية للخصم، ويخلق ثغرات يمكن استغلالها لاختراق شبكات A2/AD الأكثر صلابة. كما تتميز الأسراب بقدرتها على إعادة توجيه المهام (Mission Re-tasking) أثناء الطيران، ما يسمح لها بالانتقال من الاستطلاع الى التشويش أو الاستهداف بشكل فوري استجابة لتطورات الميدان.
غير أن Gremlins ليس مجرد أداة عملياتية؛ بل هو رافعة استراتيجية ضمن عقيدة السرب الذكي التي تركز على ثلاث ركائز رئيسة:
1. التشغيل الشبكي، إذ تعمل المسيّرات كوحدة مترابطة عبر شبكات آمنة مرتبطة بمنظومات القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات (C4ISR)، ما يمنحها القدرة على اتخاذ قرارات تكتيكية شبه مستقلة.
2. التكيف الديناميكي، حيث تستطيع الأسراب إعادة تشكيل أنماط انتشارها وتكتيكاتها بسرعة لمواجهة التهديدات غير المتوقعة أو استغلال نقاط الضعف في دفاعات الخصم.
3. الردع بالحرمان، وهو حرمان الخصم من القدرة على فرض سيطرته العملياتية عبر تهديده المستمر بقدرات اختراق منخفضة الكلف يمكنها استهداف عمقه الاستراتيجي دون تعريض المنصات المأهولة للخطر.
هذه الركائز تمنح الولايات المتحدة القدرة على كسر معادلة A2/AD وتوسيع هامش المناورة العملياتية دون المخاطرة بمنصاتها الكبرى. Gremlins، في هذا السياق، يتيح خلق قدرة هجومية موزعة (Distributed Lethality) تولد ضغوطا عملياتية متزامنة على الخصوم وتحدّ من قدرتهم على فرض وقائع استراتيجية جديدة.
على الصعيد الجيوسياسي، تتجاوز آثار عقيدة السرب الذكي البعد العملياتي المباشر، فبفضل انخفاض كلفة تشغيل Gremlins وقابليته للتكامل مع بنى الحلفاء العملياتية، يمكن دمجه بسهولة ضمن منظومات القيادة والسيطرة لحلف الناتو أو الشركاء الآسيويين، وهذا ما يعزز نموذج ردع الائتلافات (Coalition Deterrence)، الذي يوسع نطاق الردع الأمريكي عبر شبكة متعددة الجنسيات يصعب على الخصوم تعطيلها بشكل كامل.
ومع ذلك، فإن هذه المرونة العملياتية تنطوي على مخاطر تصعيدية، فالأسراب الذكية قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة وخاطفة دون إنذار استراتيجي مسبق، ما قد يدفع الخصوم الى تبني وضعيات "الاستجابة أولا" في أوقات الأزمات. مثل هذه السيناريوهات قد تسرّع التصعيد في مناطق شديدة الحساسية مثل بحر الصين الجنوبي أو مناطق التماس في أوروبا الشرقية.
هذا التحول يعيد أيضا تعريف دور المنصات التقليدية، فبدلا من كون القاذفات وحاملات الطائرات أدوات الاشتباك الرئيسة، ستصبح منصات تمكينية (Enabling Platforms) تُستخدم لإطلاق أسراب مستقلة تعمل بشكل شبكي موزع، وهذا ما يعيد صياغة ميدان القتال في صورة بيئة عملياتية موزعة (Distributed Battlefield) تتسم بالمرونة والقدرة على التكيف وكثافة النيران الذكية.
في المحصلة، يمكن القول إن برنامج Gremlins يمثل أكثر من مجرد تقدم في تكنولوجيا الطائرات غير المأهولة؛ إنه إعادة صياغة شاملة لمعادلة الردع والهيمنة الأمريكية. فمن خلال التشبع العددي، التشغيل الشبكي، واللامركزية، تملك الولايات المتحدة القدرة على تجاوز قيود بيئات A2/AD الأكثر تعقيدا. غير أن النجاح في هذا المسار يتطلب إدماج هذه القدرات ضمن استراتيجية كبرى متوازنة تحافظ على الردع دون الانزلاق الى التصعيد غير المحسوب. وفي عالم يشهد سباقا محموما نحو تعزيز القدرات المضادة للوصول، قد تكون عقيدة السرب الذكي الورقة التي تحفظ للولايات المتحدة تفوقها العملياتي والجيوسياسي لعقود قادمة.