المقالات -
الصراع العالمي لفرض الهيمنة التكنولوجية

: 82
الاثنين,30 يناير 2023 - 06:02 ص
إريك شميت
الاقتصادية

قـدم لنا العام الماضي بعض الدروس القديمة حول منافسات القوى العظمى. لكنه قدم أيضا بعض الدروس الجديدة حول الكيفية التي تعمل بها التكنولوجيا على تغيير التضاريس الاستراتيجية.

الصراع العالمي لفرض الهيمنة التكنولوجية
اضغط للتكبير

 

لم يعد هناك أي شك بشأن التحدي الذي تفرضه بعض الدول والأنظمة الأخرى على سيادة القانون الدولي، واحترام السيادة، والمبادئ السياسية، والشعوب الحرة. تنامت هذه التهديدات مع تسخير بعضها تكنولوجيات جديدة لمراقبة السكان، والتلاعب بالمعلومات، والتحكم في تدفق البيانات. تقدم هذه الأنظمة مثالا للكيفية التي تقوم بها بعض الدول لتتمكن من إحكام قبضتها على حرية الفكر والتعبير، وتكوين الجمعيات. قد تشكل التدابير الصارمة التي تفرضها بعض الدول لخفض الإصابات بمرض فيروس كورونا إلى الصـفر اختبارا لهذه السيطرة، لكن استخدامها تكنولوجيات مثل الطائرات المسيرة دون طيار لمراقبة الالتزام بالحجر الصحي يمثل حقبة جديدة من التجاهل والتعتيم الرقمي.

تزامن تصاعد التوترات الجيوسياسية مع توغلات متنامية إلى مختلف جوانب الحياة العامة والخاصة بالاستعانة بتكنولوجيات تخريبية. والتداعيات المترتبة على هذا في 2023 وما بعده واضحة، حيث تشكل منصات تكنولوجيا المستقبل الآن التضاريس الجديدة للمنافسة الاستراتيجية. وعلى هذا فإن الولايات المتحدة لديها مصلحة أساسية في التأكد من أن هذه التكنولوجيات مصممة ومبنية ومطبقة ومحكومة بوساطة أنظمة سياسية.

وحول نافذة أوكرانيا على المستقبل، فإنه تساعدنا مقاومة أوكرانيا لمواجهة الحرب "بدعم كبير من ديمقراطيات أخرى"، على فهم الكيفية التي تعمل بها التكنولوجيا على تحويل هيئة الجغرافيا السياسية. أوكرانيا دولة شديدة الترابط وبارعة في توظيف التكنولوجيا، وسرعان ما توحدت ضد خصم أكبر كثيرا بدا في مستهل الأمر كأنه يمتلك ميزة عسكرية ساحقة. الآن تفوز أوكرانيا بأول حرب شبكية رقمية في العالـم، لأنها نجحت في تسخير الإبداع البرمجي وتعظيم استخدام تكنولوجيا المصادر المفتوحة وإضفاء طابع لا مركزي على العمليات. وكل قدراتها التكنولوجية مترابطة بفعل الوصول غير المنقطع إلى الإنترنت.

تقدم أوكرانيا أيضا لمحة من الهيئة التي قد تبدو عليها الديمقراطية القائمة على التكنولوجيا، تسمح الخدمات المستندة إلى السحابة السيبرانية للحكومة بالتواصل بشكل مباشر مع المواطنين، في الأغلب من خلال أجهزة الاستخدام اليومي مثل الهواتف الشخصية المزودة ببرمجيات التشفير والخصوصية. ويعمل القادة السياسيون وصناع السياسات الشباب المبدعون من كثب مع قوة عمل تكنولوجية موهوبة، لاكتساح عقود من التصلب البيروقراطي. إذا كان بوسع أوكرانيا أن تبدع في ظل ظروف الحرب الحالية الدائرة، فإن كل الديمقراطيات الأخرى قادرة على القيام بذلك أيضا.

ساعدت شركات كبيرة وصغيرة من مختلف أنحاء العالـم على دعم التحول نحو التكنولوجيا أولا، حيث ظهرت باعتبارها قوى استراتيجية مهمة في حد ذاتها. فقد عملت على حماية البيانات المالية والحكومية الأوكرانية المهمة في وقت مبكر بتحويلها إلى السحابة السيبرانية، كما قدمت تحذيرات من الهجمات السيبرانية وتصدت لها، وساعدت على إبقاء الأوكرانيين على اتصال مباشر ببعضهم بعضا وبشبكة الإنترنت العالمية، حتى يعرف العالم جرائم الحرب التي ترتكب، في غياب النظام البيئي الأوسع اللازم للوصول إلى منصات التكنولوجيا، ربما كان الصراع ليتخذ مسارا مختلفا تمام الاختلاف.

لكن تخيل الآن مستقبلا تتحكم فيه بعض الدول في التكنولوجيات والشركات التي تشرف على الوصول إلى الشبكة، وتحمي الشبكات من التهديدات السيبرانية، وتشيد البنية الرقمية الأساسية، وتحدد الرسائل التي تجب مراقبتها، وتدير تدفقات البيانات الحساسة. كان العالم ليصبح عامرا بالقهر المنهجي والهجمات البيانية التي تنتهك الخصوصية الفردية، حيث يقـضـى على سبل الحماية الأساسية لحرية التعبير. إذا حدث هذا فلن تتمكن أوكرانيا أو أي دول أخرى ـ ولا أي نظام حكم آخر ـ من التحكم في مصيرها.

ينبغي لنا أن نتعامل بجدية عملية مع نجاح الصين في تصدير حلول الشبكات المتكاملة التي تجمع بين الأجهزة والبرمجيات وتقديم الخدمات للعملاء في مختلف أنحاء العالـم. فهو يعمل على توسيع دائرة نفوذ الحكومة الصينية ويعطيها ميزة فوق الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الأخرى، ليس فقط في سباق التكنولوجيا، بل أيضا في المنافسة الجيوسياسية الأوسع. ولا يجوز لنا أن نفترض ببساطة أن المزايا التي تتمتع بها الشركات الغربية في مجالات، مثل التكنولوجيا السحابية، ومراكز البيانات، ووسائط التواصل الاجتماعي قد تستمر بشكل طبيعي.

يـعـد الصعود الصاروخي المتسارع الذي شهدته منصات مثل TikTok، وما ينطوي على ذلك من مخاوف تتعلق بالأمن القومي، مثالا واضحا على ذلك. كما تقدم غزوات الصين في مجالات التكنولوجيا المالية، والتجارة الإلكترونية، وغير ذلك من المنصات - المبنية على شبكات تديرها شركات مقرها الصين، وبالاستعانة بأجهزة مصنعة في الصين أو تحت ظلها - استعراضا لمدى احتدام النزاع في المستقبل.

وحول مسألة دروس للأنظمة الحكومية السياسية، فإنه من الواقع أن التحديات فيما يتعلق بالسياسات واضحة من منظور حكومات العالـم. أولا، يتعين علينا أن نتخلى عن نهج عدم التدخل في التطور التكنولوجي. لقد أتت التطورات الأخيرة الموصوفة أعلاه في وقت حيث حافظت الولايات المتحدة على نهج عدم التدخل في الاستراتيجية التكنولوجية. وفي مجالات أساسية مثل تطوير الأجهزة والبرمجيات والشبكات، كان لزاما على الولايات المتحدة وشركائها الرد من وضع دفاعي. كان هذا هو الحال مع الحملة التي قادتها الولايات المتحدة ضد اكتساب شركة هواوي ميزة المحرك الأول للجيل الخامس من الاتصالات، وضخ 52.7 مليار دولار بموجب قانون الرقائق والعلوم لإنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، "الذي عملت دول أخرى في الغرب على محاكاته"، والمحاولة المتأخرة التي بذلتها أمريكا لتطوير استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية الشاملة. الواقع أن هذه التدابير التفاعلية لم تنجح إلا في التحوط ضد الكارثة، ولم تبث التفاؤل في جاهزيتنا للتعامل مع المستقبل.

ثانيا، ينبغي للولايات المتحدة وشركائها العمل على تحديد "الرقائق التالية" وتوجيه السياسة العامة وفقا لذلك. نحن في احتياج إلى نموذج قابل للتكرار بين القطاعين العام والخاص لتطوير وتنفيذ استراتيجية تكنولوجية وطنية طويلة الأجل. وتتضاءل مخاطر الاستثمارات العامة الضخمة في قطاعات بعينها - مخاطر سياسية واقتصادية على حد سواء - مقارنة بالمخاطر المتمثلة في التنازل عن وظائف التكنولوجيا الصناعية الأساسية لمنافس استراتيجي، أو تركها معرضة بشدة لنقاط الاختناق في سلاسل التوريد.

تتحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها في الاتجاه الصحيح من خلال تشجيع مزيد من استخراج المعادن ومعالجتها التي ستكون ضرورية لبناء تكنولوجيات المستقبل. لكن ربما تستحق قطاعات أخرى في مجال تصنيع الأجهزة قدرا أكبر من الاهتمام والاستثمار. على سبيل المثال، ينبغي للغرب أن يشعر بالقلق الشديد إزاء هيمنة الصين على سلاسل القيمة في مجال تصنيع البطاريات والألواح الشمسية.

ثالثا، يجب أن تعمل أمريكا وشركاؤها على تحديد "موازنات" التكنولوجيا التالية والتعجيل بتطوير هذه التكنولوجيات ونشرها. لا شك أن محاولة تكرار كل قاعدة للتصنيع التكنولوجي داخل المدار الحكومي الفيدرالي غير واقعية، وربما تكون باهظة التكلفة...

ينبغي للولايات المتحدة وحلفائها العمل على تنسيق استثماراتهم في التكنولوجيات التي ستقود الموجة التالية من التنمية الاقتصادية. في اعتقادي، أن تكنولوجيا التصنيع الحيوي وغير ذلك من تكنولوجيات التصنيع المتقدمة تشكل مجالات مثيرة، حيث يتمكن المحركون الأوائل الأكثر قدرة على المنافسة من تحقيق قفزة إلى الأمام. على نحو مماثل، قد تمثل الاختراقات التي يعمل الذكاء الاصطناعي على تمكينها في مجال طاقة الاندماج مسارات جديدة بالكامل للتكنولوجيا النظيفة، مع تداعيات استراتيجية ضخمة.

أخيرا، يجب أن تحافظ الحكومات على تفاؤلها بقدرة التكنولوجيات الجديدة على توفير فرص ومزايا غير متوقعة. أخشى أننا إذا غفلنا عن وعد الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وغير ذلك من التكنولوجيات الناشئة ـ أو إذا ركزنا على التحديات وأفرطنا في تجنب المجازفة ـ فإننا بهذا نتخلى عن القيادة التنافسية وندفع بأنفسنا إلى طريق استراتيجي مسدود. لا أحد يستطيع أن ينكر أن منصات التكنولوجيا القوية تثير تحديات أخلاقية واقتصادية وسياسية عميقة، وأن مواجهة هذه التحديات تستلزم استجابات جهازية شاملة وليست استجابات ارتجالية، وفقا لما تمليه الظروف. لكن يتعين علينا أن نثق بقدرة الوسائل الديمقراطية على تمكيننا من إيجاد التوازن بين الإبداع والتنظيم، وغير ذلك من المصالح الوطنية في القطاعات الجديدة المعطلة للأساليب القديمة.

الواقع أن منظمات المجتمع المدني والحكومات والشركات في مختلف أنحاء العالـم الحرة قادرة تماما على إيجاد نهج متوازن لإدارة هذه التكنولوجيات. على النقيض من هذا، لا تتمتع الدول الاستبدادية بقدرة مكافئة في مجال الحوكمة، ولا تفرض أي ضوابط على الكيفية التي تستغل بها الدولة منصات التكنولوجيا على نحو ينتهك حقوق الإنسان، سواء كان ذلك لتوسيع نفوذها الجيوسياسي، أو تقويض خصومها. لن يحل الفوز بمسابقة المنصات المناقشات المعقدة داخل المجتمعات الديمقراطية حول كيفية إدارة التكنولوجيا، لكنه شرط أساس مسبق لمجرد إجراء أي مناقشة في المقام الأول.

وبشأن أجندة تكنولوجية، فإنه ستتطلب الأجندة التي ألمحت إليها هنا قيادة وطنية وتنظيما منهجيا. لقد واجهت الولايات المتحدة وديمقراطيات أخرى مثل هذه التحديات من قبل، كما حدث أثناء السباق إلى الفضاء في منتصف القرن الـ20، الذي لا يزال مستمرا إلى يومنا هذا.

لكننا لا نستطيع إعادة إصدار دليل الحرب الباردة لهذا العصر الجديد. يجب أن نتكيف مع صعود لاعبين جدد في مجال الإبداع التكنولوجي والتمويل ـ من التمويل الحاشد إلى رأس المال الاستثماري. يتعين علينا أن نتقبل حقيقة مفادها أن سلاسل التوريد في مجال التكنولوجيا ستظل متقاطعة عبر العالم، وكذا ستكون حال شبكات الجامعات، والباحثين، والشركات التي تبني المستقبل، وإن كان ذلك بأنماط متغيرة، بينما نتكيف مع حقائق المنافسة الاستراتيجية الجديدة.

الواقع أن هذه التحولات يمكن تنظيمها وتسخيرها لضمان احتفاظ الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات بقيادتها التكنولوجية. لكن الحكومات الديمقراطية يجب أن تستفيد من دروس 2022 إذا كان للعالم أن يختار أي المنصات يجب أن يستخدمها لبناء المستقبل.


Share/Bookmark

اقرأ ايضآ

  • الاقتصاد الكلي للذكاء الاصطناعي
  • المغرب يدخل عصر صناعة البطاريات الالكترونية
  • قانون الأسواق الرقمية الأوربية وحوكمة الشركات الكبرى
  • رحلة الراحل محمد الشارخ حتى تأسيس كمبيوتر صخر
  • الأدلة الرقمية لجرائم الحرب فى غزة
  • فيسبوك
    تعليقات


    غزة وتوجهات جيل زد نحو تغيير قواعد الحوكمة العالمية
    كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة عن متغيرات جديدة فيما يتعلق بعملية صناعة وتشكيل الرأي العام العالمي و

    المغرب يدخل عصر صناعة البطاريات الالكترونية
    في خطوة مهمه لدعم الاقتصاد المغربي من جهة وصناعة السيارات من جهة اخرى اعلنت المملكة للمرة الأولى عن

    قانون الأسواق الرقمية الأوربية وحوكمة الشركات الكبرى
    في 6 مارس 2024 دخل حيز التنفيذ قانون الاسواق الرقمية،داخل الاتحاد الاوربي والذي تم اقراره عام 2022

    موضوعات جديدة
    الأكثر قراءة
    الأكثر تعليقا
    الى اي مدى انت راض على اداء المنصات الرقمية في الحرب على غزة ؟
    راضي
    غير راضي
    غير مهتم
     
        
    سيادة الدولة في العصر الرقمي للدكتور عادل عبد الصادق
    التاريخ