يُعد تخارج "بوينغ" من هذا القطاع خياراً منطقياً لتحقيق مكاسب أكبر، إذ سيسهم التخلص من هذا النشاط في تخفيف الضغط عن شركة صناعة الطائرات خلال مرحلة حاسمة تتطلب تركيزها الكامل على إصلاح قطاع الطائرات التجارية. ولم تعد الشركة في وضع يمكنها من تحمل المزيد من التحديات أو عوامل التشتيت. كذلك، ستستفيد وكالة "ناسا" من هذا القرار، خاصة بعد فقدان بعض الثقة في "بوينغ" جراء تعثرات متعددة متعلقة بمشروع "ستارلاينر". أما بالنسبة للمستثمرين، فيمكنهم جني مكاسب إذا تمكنت "بوينغ" من بيع الوحدة أو امتلاك حصة في كيان فضائي مستقل في سوق فضاء تجاري لا يزال في مراحله الأولى.
النجاح يتطلب رؤية واضحة
لكن من أجل نجاح وحدة الفضاء ككيان منفصل، فإنها تحتاج إلى طاقة جديدة ورؤية واضحة. فقد لعبت وحدة الفضاء في "بوينغ" دوراً بارزاً في عالم الفضاء، حيث دعمت "ناسا" في إرسال رواد الفضاء إلى القمر ضمن برنامج "أبولو"، مما عزز هيمنة الولايات المتحدة في هذا المجال. ويشهد القطاع حالياً طفرة غير مسبوقة تتجسد في خطط إقامة قاعدة دائمة على القمر وزيادة الاستثمار في الأقمار الاصطناعية والخدمات الفضائية.
يُرجح أن تستمر "بوينغ" في استنفاد السيولة خلال العام المقبل في وقت تواجه تحديات زيادة الإنتاج مرة أخرى بعد إضراب عمالي والتدقيق التنظيمي على عمليات مصنعها.
وفي هذا السياق، قال غلين لايتسي، أستاذ هندسة الطيران والفضاء بمعهد جورجيا التقني، إن "الأمر كان مثيراً بالنسبة لنا كعاملين في هذا المجال، فقد كنا نحلم بمثل هذه الفرص نوعاً ما. ومع انخفاض تكلفة الوصول إلى الفضاء بشكل كبير، أصبح بإمكان مزيد من الأطراف المشاركة في هذا المجال".
ورغم أن "بوينغ" لا تزال شريكاً لـ"ناسا" وتطلعاتها بشأن القمر ضمن برنامج "أرتميس"، إلا أنها واجهت إخفاقات أكبر في برنامج الطاقم التجاري التابع لوكالة الفضاء. فقد وقعت "ناسا" في عام 2014 عقداً أولياً بقيمة 4.2 مليار دولار مع "بوينغ"، وآخر بقيمة 2.6 مليار دولار مع "سبيس إكس" (SpaceX) لتطوير أنظمة تنقل رواد الفضاء من وإلى محطة الفضاء الدولية، وتقليل الاعتماد على الصواريخ الروسية.
"بوينغ" تنسحب من العقود الخاسرة
حالياً، تتولى "سبيس إكس" نقل الطواقم إلى الفضاء وإعادتهم، حيث أعادت في 25 أكتوبر أربعة رواد فضاء إلى الأرض، من بينهم رائد فضاء روسي. وفي حادثة لافتة، نقلت مركبة الفضاء "ستارلاينر" التابعة لـ"بوينغ" رائدي فضاء إلى محطة الفضاء الدولية، لكن مشكلات تتعلق بتسرب الهيليوم وتعطل المحركات، دفعت "ناسا" لإلغاء خطتها لإعادتهما باستخدام المركبة.
اختارت وكالة ناسا شركة "سبيس إكس" التابعة لإيلون ماسك لإعادة رواد الفضاء الأميركيين الذين اضطروا لتمديد إقامتهم بمحطة الفضاء الدولية بسبب مشكلات فنية بكبسولة "بوينغ"
أصبحت وحدة الفضاء في "بوينغ" متأخرة عن الجدول الزمني وتتجاوز الميزانية المحددة لمشروع "نظام الإقلاع الفضائي"، وهو الصاروخ المخصص لنقل البشر إلى القمر ضمن برنامج "أرتميس". وقد ألمح الرئيس التنفيذي لـ"بوينغ" كيلي أورتبيرغ إلى احتمال رفض شركته مواصلة المشاركة في مراحل جديدة من المشاريع التي تتكبد فيها خسائر مالية ضمن وحدة الدفاع والفضاء والأمن. لكن هل يمكن أن يشمل ذلك عقود "ناسا"؟
عند سؤاله خلال مكالمة مع المحللين في 23 أكتوبر عن إمكانية الانسحاب من العقود الخاسرة المبرمة ضمن وحدة الدفاع والفضاء والأمن، أجاب أورتبيرغ بنبرة غامضة قائلاً: "هناك بعض المجالات التي نعمل فيها وفق عقد واحد، وعلينا الجلوس وتقييم ما إذا كنا نرغب في المضي قدماً إلى المرحلة التالية".
تحديات وأزمات
يواجه أورتبيرغ تحديات عدة، منها إضراب 33 ألف عامل فني أدى إلى إغلاق المصانع في منطقة سياتل، وتفاقم استنزاف السيولة. وعلى نحو مماثل للانقسامات الثقافية التي شهدتها مصانع الطائرات وتسببت في مشكلات في الجودة والسلامة، يبدو أن هناك أمراً غير طبيعي يجري في وحدة الفضاء أيضاً.
تعتزم "ناسا" إقامة برج إطلاق جديد يسمى من المتوقع أن تصل كلفته 2.7 مليار دولار، أي أكثر من سبعة أمثال التقديرات المبدئية، ولا يوجد جدول زمني معقول لاكتماله.
باعتبارها شركة مستقلة، ستركز القيادة الجديدة بشكل كامل على إصلاح مشكلات وحدة الفضاء. وستكون المهمة ضخمة، وستتطلب خبرات جديدة ورؤية طموحة لمواكبة "سبيس إكس"، التي رفعت المعايير في القطاع بنجاحها في إعادة استخدام الصواريخ.
اعتمدت "بوينغ"، بالتعاون مع شريكتها في إطلاق الصواريخ "لوكهيد مارتن" (Lockheed Martin)، على العقود الحكومية في تأسيس أعمالها الفضائية. وهذا يعني أن وتيرة العمل تعتمد على ميزانيات "ناسا" وقطاع الدفاع، وقد أدى هذا النهج إلى الإفراط في التصميم وغياب الحوافز للأفكار المبتكرة.
تغيرات قطاع الفضاء
يتغير قطاع الفضاء بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من أن الحكومات لا تزال تلعب دوراً رئيسياً، فإن السوق التجارية تشهد توسعاً بزيادة إطلاق الأقمار الاصطناعية والنقاشات حول العودة إلى القمر. ومع انخفاض تكلفة الإطلاق الفضائي، ستستفيد مزيد من الدول والشركات من هذه السوق الناشئة التي تشكل اقتصاداً خاصاً بها، بحسب لايتسي.
بينما يشرف مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي على تنسيق الأنظمة الفضائية، يبقى القمر منطقة مفتوحة قد تخضع لحقوق الأسبقية للمستوطنين الأوائل. ورغم إمكانية نقل الأقمار الاصطناعية أو التخلص منها عند انتهاء صلاحيتها، فإن البنية التحتية على القمر ستكون دائمة على الأرجح. ومن الضروري أن تحافظ الولايات المتحدة وحلفاؤها المقربون على الصدارة في هذا السباق الفضائي الجديد.
إعادة هيكلة وحدة الفضاء
يجب أن تلعب وحدة الفضاء في "بوينغ" دوراً رئيسياً في هذا السباق. فاعتماد الولايات المتحدة على شركة خاصة واحدة ليس خياراً حكيماً، لذلك، فإن بيع أو فصل وحدة الفضاء سيوفر الفرصة لإعادة صياغة رؤيتها. ورغم أن "بوينغ" شركة ذات تاريخ عريق يمتد لأكثر من مئة عام، إلا أنها لم تعد تثير حماسة المهندسين الشباب، بحسب لايتسي الذي قال: "نجد صعوبة في جذب المواهب بنفس القدر الذي تحظى به الشركات التي تتمتع بسمعة مثيرة".
تخطط شركة "بوينغ" للبدء في خطوات زيادة رأسمالها في وقت مبكر من يوم الاثنين، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر.
يعرف معظم الناس أن الملياردير جيف بيزوس يملك شركة "بلو أوريجين" (Blue Origin)، وربما علموا عن تعيينه ديف ليمب، أحد المديرين التنفيذيين السابقين في "أمازون دوت كوم"، كرئيس تنفيذي لتسريع التطورات.
والجميع يدرك أن إيلون ماسك هو مؤسس "سبيس إكس" ويشغل منصب رئيسها التنفيذي. أما وحدة الفضاء في "بوينغ"، فهي تحت إدارة كاي سيرز، نائب الرئيس والمدير العام لأنظمة الفضاء والاستخبارات والأسلحة، حيث تدمج الشركة بين إطلاق الصواريخ والأقمار الاصطناعية وأعمال "ناسا"، وبين الذخائر والصواريخ وأنظمة الأسلحة والعمليات البحرية. ويتطلب فصل وحدة الفضاء فك ارتباط هذه الأنشطة عن بعضها.
ينبغي لـ"بوينغ" المضي قدماً في بيع أو فصل وحدة الفضاء الخاصة بها. ومن الضروري أن تصبح هذه الوحدة اسماً بارزاً لأسباب وجيهة، حيث سيحقق المشروع، بقيادة ذات رؤية مستقبلية، مكاسب لجميع الأطراف.
باختصار
يرى هذا المقال أن شركة "بوينغ" تواجه خياراً استراتيجياً قد يعود بمكاسب كبيرة لجميع الأطراف، يتمثل في بيع أو فصل أعمالها الفضائية. يأتي هذا القرار وسط ضغوطات مالية وحاجة الشركة للتركيز على قطاع الطائرات التجارية، خاصة مع التحديات التي واجهتها في برنامج "ستارلاينر" التابع لـ "ناسا". يمكن أن يستفيد المستثمرون إذا تمكنت "بوينغ" من تحويل وحدة الفضاء إلى كيان مستقل، إذ يشهد قطاع الفضاء نمواً كبيراً.
ويرى الكاتب أن وحدة الفضاء لدى "بوينغ" تتطلب رؤية واضحة وقيادة جديدة لمواكبة الشركات الناشئة مثل "سبيس إكس" التي حققت تقدماً كبيراً. كما أن فصل الوحدة سيتيح لها فرص الابتكار والنمو المستقلين بعيداً عن التداخل مع عقود الدفاع والأعمال الأخرى. في ظل هذا التوجه، قد تتمكن "بوينغ" من إعادة صياغة دورها في السباق الفضائي وتجنب الاعتماد على العقود الحكومية فقط، ما يعزز تنافسيتها في هذه السوق الناشئة.