الكتب - مراجعه كتب
توماس بينشون الروائي الأميركي «المختفي» يخرج برواية عن العالم الافتراضي

: 8260
الاثنين,16 مايو 2016 - 08:42 ص
باريس - أنطوان جوكي

لا يزال الغموض يلفّ شخص الكاتب الأميركي توماس بينشون على رغم بلوغه قريباً عامه الثمانين. ولا عجب في ذلك،

توماس بينشون الروائي الأميركي «المختفي» يخرج برواية عن العالم الافتراضي
اضغط للتكبير
وهو الكاتب الذي لم يُجْرِ خلال مسيرته الكتابية الطويلة إلا حواراً صحافياً واحداً، ولا تملك الصحافة العالمية لوجهه سوى صورة وحيدة بالأبيض والأسود تعود إلى فترة دراسته الجامعية. وبينما تتوارى الآثار القليلة من حياته الشخصية الواحدة تلو الأخرى، تزيد رواياته الضخمة من غموضه بدلاً من مساعدتنا على سبر هذا الغموض.

وفعلاً، تتطلب قراءة بينشون منا أن نقبل بالتخلّي عن نقاط استدلالنا للضياع داخل فيضٍ هذياني، أو ما يمكن أن نسمّيه «شعرية البارانويا» التي تميّز كل نصوصه. ولا نفتح رواية «V» أو «فينلاند» أو «مايسون وديكسون» لتمضية وقتٍ ممتع في القراءة، فكلفة أقل شرود، هي التيه بين شخصيات لا تحصى أو داخل استطرادات مدوخة بمضمونها وغزارتها أو خلال مناورات الكاتب الحاذقة لرفع الوشاح الذي يخفي الجانب السفلي من أميركا. لكن تحكّمه المذهل بسرده يجعل قارئه اليقظ يسير معه حتى النهاية في كل مرة، محمولاً بطرافة أسلوبه الفريدة.

كل هذه المميزات تحضر في روايته الأخيرة «الحد النازِف» التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً تحت عنوان «خلفيات ضائعة» عن دار سوي Seuil الباريسية، وذلك بعد أقل من عامين على صدورها في نيويورك، علماً أنها تبدو أقل تعقيداً من سابقاتها. ولعل هذا يعود إلى طبيعة نصّها الذي يأخذ طابع التحقيق البوليسي، وإلى تقنية السرد المعتمدة فيها والتي ترتكز في شكل رئيس على الحوارات من أجل تسيير عدد مهم من المعطيات المفيدة لشخصياتها وللقارئ على حد سواء.

أحداث الرواية تدور في نيويورك عام 2001، بعد السقوط المدوي لقيمة أسهم شركات الإنترنت، حيث نتابع التحقيق المعقّد الذي تجريه المفتّشة السابقة في عمليات الاحتيال والغش، ماكسين تارنو، في حسابات شركة كمبيوتر تدعى «هاشلينغرز»، يتبيّن تدريجياً لنا أنها شركة وهمية تدير رؤوس أموال طائلة وتستخدم بذكاء قراصنة الإنترنت في نيويورك وشركات معلوماتية مختلفة من أجل تحويل ملايين الدولارات إلى الخارج، وتحديداً إلى الشرق الأوسط.

لماذا لم تتأثّر هذه الشركة مثل غيرها بسقوط قيمة الأسهم ؟ وما هو نوع المؤامرة التي يحيكها صاحبها الشاب، غبرييل أيس، مع بعض المجموعات الإرهابية في شرقنا، وما هي طبيعة علاقته بأجهزة الاستخبارات في بلده؟ ثم ما قصة الفيديو المجهول الهوية الذي استلمته ماكسين قبل أيام من أحداث 11 أيلول، ويظهر فيه أشخاص مشبوهون على سطح إحدى البنايات في نيويورك، يوجّهون قاذفة صواريخ أرض جو على الطائرات المحلّقة في سماء المدينة ؟ هل الأمر يتعلق بتدريب يسبق الاعتداء الشهير على برجَي مركز التجارة الدولي؟

في هذه الرواية التي يختلط الواقع بالخرافة، يسعى بينشون إلى كشف الأمراض الجديدة التي يعاني منها وطنه، مستكشفاً في هذا السياق ذلك الفضاء الموازي والافتراضي الذي لا حدود ملموسة له، ونقصد شبكة الإنترنت في مختلف أخطارها وعقباتها وقراصنتها والمتآمرين فيها، ومتوقفاً خصوصاً عند الشبكة العميقة المحرّرة من أي رقابة أو ضوابط والتي تحاك فيها المؤامرات وتبدو على شكل دغلٍ لا مفرّ من التيه في أرجائه، مثل الرواية ذاتها. وهو ما يحصل لماكسين خلال تحرّياتها داخلها، وأيضاً في مختلف أنحاء نيويورك حيث ينشط كوادر من وكالة الاستخبارات الأميركية وعملاء لجهاز الموساد وجواسيس روس، إلى جانب ناشطين يساريين وشخصيات من «وادي السيليكون».

أرضيتان متوازيتان تسمحان لبينشون بالانقضاض عند كل فرصة على المسؤولين السياسيين في بلده، «الفاشيين الأغبياء الذي يتحكّمون بسير العالم ويحتاجون دائماً إلى أعراق تكره بعضها بعضاً لإبقاء الوضع الاقتصادي الحالي كما هو، لمصلحتهم»، كما تسمحان له بتصوير حال نيويورك عام 2001 كمدينة تائهة في متاهة جشع المترفين فيها، مدينة لم تكن تختلف كثيراً عن «ديزني لاند» بطريقة عيش أبنائها وسلوكهم الطفولي حين وقعت أحداث 11 أيلول المؤلمة. أحداث يتناولها بينشون في الثلث الأخير من نصّه وتعزز منطق خطابه السردي من دون أن يجعل منها عقدة سردية رئيسية، بل يستحضر فقط نتائجها المباشرة على النيويوركيين متوقفاً ببصيرة عند دور التلفزيون والبث المباشر في تلقّي معظمهم نبأها، وبالتالي في عملية هضمها السريعة والمريبة.

وأبعد من هذه الأحداث، تتراءى لنا صورة مفصّلة لهذه المدينة حيث كل شيء يعبر بسرعة خاطفة وحيث يُنظَر إلى نهاية الألفية الثانية كما لو أنها العصر الحجري على ضوء الفورة التكنولوجية والتقدم السريع في هذا الميدان الذي يدفع بإحدى الشخصيات إلى القول: «قريباً، ستحمل شبكة الإنترنت معطيات أكثر وفيديوات أكثر، وسيعمد كل شخص إلى تصوير كل ما يحصل معه أو يدور حوله ثم يضعه على الشبكة التي لن تلبث أن تصبح مشحونة بما يتعذّر مشاهدته، فيفقد كل شيء قيمته».

ولا شك في أن قوة هذه الرواية تكمن في هذه النقطة بالذات، أي في جانبها المعاصر والواقعي في شكلٍ رهيب، وفي الرؤى الراهنة أو المستقبلية لبعض من شخصياتها، وبالتالي لبينشون نفسه الذي لم يسعَ إلى كتابة نصّ يندرج في ميدان الخرافة العلمية، بل أراد ونجح في اقتراح رؤية دقيقة لزمننا، وإن اعتمد في ذلك على قصة وشخصيات خرافية. وبما أن «البارانويا هي الثوم في مطبخ الحياة»، كما تؤكّد واحدة من شخصياته، استعان الروائي بشعرية هذا المرض للإكثار من المكايد والشخصيات المريبة والمتاهات، مستعيناً بلغة تقنية مشبعة بالمفردات المعلوماتية والطبية والكيميائية والفيزيائية الفلكية أو بالكلمات المستحدثة، ليس فقط لإظهار تعقيد عالمنا اليوم بل لانتقاد هذا التعقيد أيضاً. وهو ما يفسّر فتحه حقل تحرّياته داخل نصه الطويل (612 صفحة) بطريقة تسمح له بالذهاب من المجهري إلى الكوني.

«الحد النازِف» رواية مثيرة إذاً تعجّ بالشخصيات والتطورات، وتقارب موضوعها من دون مواربة، علماً أن خاتمتها تترك القارئ عالقاً في متاهتها نظراً إلى بقائها مفتوحة على كل الاحتمالات.

 

Share/Bookmark

اقرأ ايضآ

  • «الرياح» تطلق صرخة فزع أمام زحف التكنولوجيات الحديثة
  • كتاب بريطاني: الأمراض صنعت تاريخ البشرية
  • الذكاء الاصطناعي بحاجة إلى الفلاسفة
  • الفضاء الالكتروني والعلاقات الدولية :دراسة في النظرية والتطبيق
  • محمد عارف يروي قصة العلوم والتكنولوجيا
  • فيسبوك
    تعليقات


    غزة وتوجهات جيل زد نحو تغيير قواعد الحوكمة العالمية
    كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة عن متغيرات جديدة فيما يتعلق بعملية صناعة وتشكيل الرأي العام العالمي و

    المغرب يدخل عصر صناعة البطاريات الالكترونية
    في خطوة مهمه لدعم الاقتصاد المغربي من جهة وصناعة السيارات من جهة اخرى اعلنت المملكة للمرة الأولى عن

    قانون الأسواق الرقمية الأوربية وحوكمة الشركات الكبرى
    في 6 مارس 2024 دخل حيز التنفيذ قانون الاسواق الرقمية،داخل الاتحاد الاوربي والذي تم اقراره عام 2022

    موضوعات جديدة
    الأكثر قراءة
    الأكثر تعليقا
    الى اي مدى انت راض على اداء المنصات الرقمية في الحرب على غزة ؟
    راضي
    غير راضي
    غير مهتم
     
        
    سيادة الدولة في العصر الرقمي للدكتور عادل عبد الصادق
    التاريخ