فمنذ سنوات تعمل إسرائيل على تحويل ساحات القتال إلى "غرف عمليات رقمية" حيث يُدار كل شيء من خلال البيانات الضخمة، الأقمار الصناعية، الطائرات المسيّرة، والهجمات السيبرانية.
فالحروب عندها لم تعد مجرد معركة عسكرية، بل مشروع بحث علمي - تجاري، تُصدّر نتائجه لاحقًا إلى العالم كسلاح وكتكنولوجيا مراقبة.
وأحد أبرز الأمثلة على ذلك هو برنامج التجسس الشهير بيجاسوس الذي حوّل الهواتف إلى جواسيس شخصية تخترق أدق تفاصيل الحياة الخاصة. وهو الدليل الأوضح على أن إسرائيل تخوض "حروبًا صامتة" قبل أن تطلق رصاصة واحدة. كذلك فإن أنظمة الدفاع مثل القبة الحديدية تعتمد على تكنولوجيا اعتراض دقيقة تعكس كيف صارت المعركة حسابات رياضية بين صاروخ مهاجم وصاروخ مضاد في مشهد يوحي أن الحرب لم تعد بين بشر، بل بين خوارزميات.
وفي الميدان تعتمد إسرائيل بشكل متزايد على الطائرات المسيرة. فقد تحوّلت غزة ولبنان وسيناء أحيانًا إلى "حقول تجارب" لهذه الأسلحة الذكية. الطائرة الصغيرة قد تعادل كتيبة كاملة تُطلق صواريخها وتعود بلا خسائر بشرية من الجانب الإسرائيلي. هذه الحرب عن بعد جعلت إسرائيل "تقتل بلا مخاطرة" وتدير الصراع وكأنه لعبة فيديو، بينما يدفع المدنيون الثمن من دماءهم وبيوتهم.
أما الوجه الأخطر فيتمثل في الحرب السيبرانية؛ حيث تعمل وحدات متخصصة مثل وحدة "8200" على اختراق البنى التحتية للخصوم مثل شبكات الكهرباء، أنظمة الإتصالات، المصارف، وحتى قواعد البيانات الحكومية.
والجندي هنا لم يعد يحمل بندقية بل يجلس أمام شاشة حاسوب يطلق فيروسات إلكترونية بدل الرصاص. وهكذا تتداخل خطوط المعركة جزء على الأرض، وجزء في العالم الإفتراضي.
واللافت هنا أن إسرائيل تمزج بين الجيش والشركات الناشئة، فكثير من جنود وحدة 8200 مثلاً يتركون الخدمة العسكرية ليؤسسوا شركات تكنولوجية خاصة تبيع لاحقًا منتجاتها الأمنية للحكومات حول العالم. بمعنى آخر ما يُجرَّب على الفلسطينيين يتحول بعد ذلك إلى "منتج تجاري" يُسوَّق في المؤتمرات والمعارض الدولية وتدرّ على إسرائيل مليارات الدولارات سنويًا. وهناك اتهامات دولية موثقة بأن إسرائيل تتعامل مع الأراضي الفلسطينية كساحة إختبار حيّة لأسلحتها ومنظوماتها التكنولوجية من الطائرات المسيرة إلى برامج المراقبة. كل شيء يُجرب أولًا على سكان غزة والضفة الغربية قبل أن يُعرض للبيع في الأسواق العالمية. وهنا تكمن خطورة إضافية فالمأساة الإنسانية تتحول إلى "دعاية تسويقية" لصناعة السلاح.
بعد كل حرب أو جولة عسكرية تُعلن شركات السلاح الإسرائيلية عن زيادة في المبيعات وتعرض منتجاتها تحت شعار "مجرَّب في الميدان". هذه المعادلة القاسية تختصر المشهد ، الدم العربي والفلسطيني يُحوّل إلى شهادات جودة لأسلحة إسرائيلية تُباع لدول تبحث عن أحدث أدوات السيطرة والمراقبة. وصحيح أن هذه الإستراتيجية التكنولوجية منحت إسرائيل تفوقًا نسبيًا لكنها كشفت أيضًا هشاشتها، فكلما زادت إعتمادًا على الآلة قلّت قدرتها على المواجهة البشرية المباشرة.
إن الرهان على التكنولوجيا قد يمنح تفوقًا لحظيًا، لكنه لا يضمن حسم الصراع في بيئة متفجرة بالغضب الشعبي ولا يستطيع أن يطفئ روح المقاومة.
وتؤكد البيانات الحديثة هذه الصورة بوضوح. فقد أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أن صادرات الأسلحة بلغت حوالي 14.79 مليار دولار في عام 2024 وهو رقم قياسي بزيادة تقترب من 13? مقارنة بالعام السابق رغم أن البلاد كانت منخرطة في نزاع عسكري مستمر. ومن هذه الصادرات ذهب نحو 54? إلى الدول الأوروبية و23? إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ و12? إلى دول "اتفاق إبراهيم" و9? إلى أمريكا الشمالية بينما استحوذت أمريكا اللاتينية وأفريقيا على حوالي 1? فقط لكل منهما. والجزء الأكبر من هذه الصادرات كان من أنظمة الصواريخ والذخيرة وأنظمة الدفاع الجوي بينما المركبات المدرعة والطائرات المأهولة والأنظمة الإلكترونية والمراقبة احتلت حصصًا أقل تراوحت بين 8 و9? تقريبًا لكل فئة. أما على صعيد البحث والتطوير فإسرائيل تنفق حوالي 6.3? من الناتج المحلي الإجمالي في هذا المجال وهو من أعلى المعدلات في العالم مما يفسر سرعتها في تطوير تكنولوجيات حربية متقدمة ومتصلة بالذكاء الإصطناعي والتجسس السيبراني.
وختاماً ، أؤكد أن إسرائيل لا تحارب لتنتصر فقط، بل لتحوّل أرض المعركة إلى مختبر، والدماء إلى بيانات، والأرواح إلى معادلات. ومن يظن أن هذه التكنولوجيا ستمنحها أمانًا أبديًا ينسى أن آلة الحرب مهما بلغت دقتها لا تستطيع أن تهزم إرادة الشعوب.
|