وهو ما يشير أن التوصل إلى تفاهمات وصفقات جوهرية معها ومع غيرها من الدول، لا يزال بعيد المنال في ظل تصريحاته التي بدت متناقضة. ترمب يأمل بأن يعزّز تكتيكا «الصدمة» و«الرعب» في فرض الرسوم الجمركية، نفوذه ومكانته وقوة أميركا ومكانتها، ويعتقد أن الوصول إلى السوق الأميركية هو أقوى سلاح في هذه الحرب، لكن بيل أكمان، مدير صندوق التحوّط، وصف هذه «الحرب»، في معرض انتقاده للرسوم الجمركية، بأنها بمثابة إطلاق «حرب نووية اقتصادية».
يدرك دونالد ترمب أن التجارة مع الولايات المتحدة مسألة حيوية لازدهار، وحتى استقرار، عشرات الدول، وأن الضمانات الأميركية تضمن أمن معظم دول العالم. ومع حالة الارتباك التي ضربت أسواق العالم، بدا أن الرئيس الأميركي يهدف إلى إحداث أكبر قدر ممكن من «الفوضى» التجارية، التي قد تجبر في نهاية المطاف الجميع على الإذعان لشروط واشنطن، وخلق نمط تجاري جديد ينهي حقبة «منظمة التجارة العالمية» وقوانينها، التي يرى أنها تعمل منذ وقت طويل ضد مصالح أميركا. وهو ما دعا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى القول أمام برلمان بلاده، الثلاثاء، إن ما يجري «ليس مرحلة عابرة، بل هو نظام عالمي يتغير».
وبينما يسعى أكثر من 70 دولة، للتوصل إلى اتفاق، تقول إدارة ترمب إن الصين فعلت العكس. وبدلاً من تسريع المباحثات الرفيعة المستوى، وعدت بمواصلة الرد بكل الوسائل المتاحة في محاولة لحماية اقتصادها. وبدا أن أكبر اقتصادين في العالم يخوضان الآن «حرباً تجارية» متصاعدة بسرعة قد تدفع تنافسهما إلى مستوى جديد من المواجهة، وقد تتسبّب في ركود عالمي.
الصين تحت الضغط
حتى الآن، تُظهر بكين الثقة، مراهنةً على اضطرابات السوق والانقسامات في دعم رسوم ترمب الجمركية، ومقتنعةً بأن لها اليد العليا، وهي فقط تحتاج لفترة انتظار أطول بقليل حتى تتراكم ردود الفعل، فتغدو في وضع أفضل قبل أي تفاوض.
ومع استبعاد خضوع الصين الآن للضغط - علناً على الأقل - فإنها تعمل بهمّة على توسيع أدواتها الانتقامية للتعويض عن فائضها التجاري الكبير مع الولايات المتحدة. وتشمل هذه الإجراءات فرض عقوبات على الشركات الأميركية العاملة في الصين، وتقييد وصول الولايات المتحدة إلى المواد الأساسية اللازمة لتصنيع منتجات عالية التقنية؛ من المعدات الطبية إلى المفاعلات النووية. كذلك تستطيع بكين فرض قيود إضافية على أنواع من المعادن النادرة أو المعادن الأساسية التي تُهيمن الصين على إنتاجها، وحتى تعليق تعاونها للحد من تدفّق الفنتانيل إلى الولايات المتحدة.
ولكن، مع حسم إدارة ترمب بأن معركتها التجارية الرئيسة هي مع الصين، تواجه بكين تحدّيات كبيرة. ورغم إطلاقها المزيد من الإجراءات لتحفيز اقتصادها، فالإنفاق من احتياطاتها المالية والنقدية - المستمر منذ أزماتها الأخيرة - وإفراطها الآن في تقديم القروض لشراء الأسهم، يهددان بتجفيفها، ما قد يعرضها لتكرار ما تعرضت له اليابان في ثمانينات القرن الماضي إبّان الحرب التجارية التي خاضها الرئيس الأسبق رونالد ريغان معها.
اقتصاد الصين حتى قبل رسوم ترمب الجمركية، ما كان بحالة جيدة، بل بدأ للتو في تجاوز ركود سوق العقارات، وضعف الإنفاق، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب. ثم إن الصين تصدّر إلى الولايات المتحدة أكثر بكثير مما تستورده منها، ما يعني أنها لا تستطيع مُجاراة الرسوم بدولار مقابل دولار، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تأثر الشركات الصينية والوظائف، بل الاقتصاد العالمي برمّته، الذي يعتمد على الكثير مما تنتجه الصين.
الدول تريد التفاوض
يكرّر ترمب وكبار مسؤوليه القول إنهم «يتفاوضون» مع شركائهم التجاريين لخفض الرسوم الجمركية العالية، لكن العديد من الحكومات التي أبدت استعدادها للتفاوض، ذكرت أنها لم تحصل في السابق على أي رد. غير أنه بعد تأجيله فرضها لمدة 90 يوماً، قد يتغير الوضع خلال الفترة المقبلة، رغم الصعوبات التي قد تواجه فرق التفاوض الأميركية بسبب نقص أعداد العاملين إثر خفض العمالة في عدد من الوزارات، منها الخزانة والتجارة، ما قد يطيل أمد التوصل لتفاهمات مقبولة للطرفين.
وفق تقارير عدة، لا تزال العديد من الدول تنتظر ردوداً على طلبها عقد اجتماعات، بينما لم يوضح مسؤولو إدارة ترمب طبيعة التنازلات التي يسعون إليها، ويرون أنها تمهد الطريق لحل تفاوضي.
هذا قد يشير إلى أنه على الرغم من انتعاش الأسواق المالية التي سعى ترمب إلى طمأنتها وقادة الشركات والجمهوريين، عبر تأجيله فرض الرسوم الجمركية، وأن هدفه النهائي خفض العجز التجاري مع الدول الأجنبية، فإنه لا يزال بعيداً عن التوصل إلى أي صفقات جوهرية مع الشركاء الأجانب الأساسيين. وكل هذا، مع أنه يريد من تلك الدول «المعاملة بالمثل» لمعالجة الظروف غير التبادلية الكامنة وراء «حالة الطوارئ الوطنية» التي أعلنها في «يوم التحرير»، الأسبوع الماضي.
من جهة ثانية، بينما يشيد البيت الأبيض بعدد القادة الأجانب الذين يتواصلون للتفاوض، يقول البعض إن تنظيم تلك الاتصالات سيتحدد بناء على الأولويات، وإن التأخير سيؤدي إلى خطوات انتقامية. ومع أن ترمب قال إنه تكلّم مع العديد من قادة الدول، فهو لم يقل الكثير عمّا إذا كانت مباحثاته حركت الكرة إلى الأمام، أو ما إذا كان سيفكر في خفض الرسوم الجمركية المتضخمة على بلدانهم.
أيضاً لم يتجاوب ترمب مع عرض البعض؛ كإسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام، الالتزام بتقليص العجز التجاري مع الولايات المتحدة، وتخفيف الحواجز التجارية الأخرى.
مع أن ترمب قال إنه تكلّم مع عدد من قادة الدول فهو لم يقل ما إذا كانت مباحثاته غيرت شيئاً
تنازلات «غير كافية»
وأحد الأمور التي أوضحها الرئيس وكبار مسؤوليه التجاريين هو أن التنازلات التي قدمتها بعض الدول حتى هذه اللحظة «غير كافية». إذ عرضت كمبوديا، التي تواجه تعريفة جمركية بنسبة 49 في المائة، خفض الرسوم الجمركية التي تفرضها على 19 فئة من السلع الأميركية، في حين تخطط تايلاند لزيادة وارداتها من النفط والغاز الأميركيين لمعالجة فائضها التجاري مع الولايات المتحدة.
ومن جهته، عرض الاتحاد الأوروبي خفض تعريفاته الجمركية على السلع الصناعية إلى الصفر، مقابل إلغاء أميركي مماثل. ولكن عندما سُئل ترمب بعد ظهر يوم الاثنين عما إذا كان ذلك كافياً لإلغاء زيادة التعريفات الجمركية البالغة 20 في المائة على الاتحاد الأوروبي، ردّ بالنفي.
غنيٌّ عن القول إن معدلات التعريفات الجمركية التي يرغب ترمب بفرضها على 100 دولة - من دون الصين - من بينها 60 شريكاً تجارياً، تتراوح بين 10 و50 في المائة، تضاف إلى الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارته على واردات الصلب والألمنيوم، وواردات السيارات وقطع غيارها، وعلى كندا والمكسيك والصين لدورها «في تهريب مخدّر الفنتانيل إلى الولايات المتحدة».
هذا دفع البعض إلى التحذير من أن الارتباك الحاصل قد يضاعف من اضطراب الأسواق، ويؤجج المخاوف من أن تكون أميركا نفسها تتجه نحو الركود. وحقاً، قال أحد الاقتصاديين: «ما نشهده هو انتعاشٌ استثنائيٌّ على أمل أن يتحوّل هذا التوقّف إلى إلغاء دائم للرسوم الجمركية العقابية العشوائية التي فُرضت على شركاء أميركا التجاريين العالميين»، لكنه أضاف: «هذا لا يُزيل خطر الركود من المشهد».
الوجه الآخر لسياسات ترمب
محلياً، يعتقد ترمب أن القوة السياسية التي يكتسبها من تأكيد سيطرته الكاملة على سياسة التعريفات الجمركية، سيخيف الشركات ويدفعها إلى دعمه، كما يؤمن بأن علاقاته بمؤيديه ستصمد في وجه فترة اقتصادية صعبة. في حين يرى محللون أن سياسات ترمب الجمركية والتوترات مع الحلفاء «هي الوجه الآخر لسياساته الداخلية المستمرة منذ تسلمه منصبه»، بعدما خفّض موظفي الحكومة وأنهى الكثير من برامج الدعم والمساعدات لخفض الإنفاق، وقمع الهجرة.
مع هذا، صدرت تحذيرات، سواءً من عمالقة الشركات والمؤثّرين الذين كانوا من أكبر الداعمين له، ومن بعض المشرّعين الجمهوريين، ومن إيلون ماسك - أحد أقرب حلفاء ترمب - والتي أشارت كلها إلى أن استراتيجية الرسوم الجمركية تنطوي على أخطار جسيمة، قد تكلّفه وحزبه خسارة تأييد القاعدة الانتخابية.
سلع صينية بانتظار التصدير ... الضحية الأول لـ"حرب" واشنطن التجارية ضد بكين (آ ب)
سلع صينية بانتظار التصدير ... الضحية الأول لـ"حرب" واشنطن التجارية ضد بكين (آ ب)
تراجع القلق مؤقتاً؟
بيد أن تأجيل فرض الرسوم الجمركية - باستثناء الصين - خفّف من الانتقادات التي واجهها ترمب من مقدّمي البرامج والمؤثرين اليمينيين على مواقع التواصل الاجتماعي و«البودكاست» الذين لعبوا دوراً كبيراً في تعزيز شعبيته لدى ملايين المتابعين، بعدما قالوا إن رؤيته للتجارة الدولية «للأسف، خاطئة».
أيضاً، تراجع القلق في صفوف بعض أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الجمهوريين، بمن فيهم حلفاء ترمب، بشأن تعريفاته الجمركية، علماً بأن البيت الأبيض وقادة الحزب تمكنوا من إضعاف محاولات إقرار مشاريع قوانين لتقييدها، وسط ضعف غير مسبوق للديمقراطيين، يصل إلى حد التواطؤ مع «الأهداف البعيدة» المتوخّاة منها.
وبعدما قدّم النائب الجمهوري دون بيكون، الاثنين، تشريعاً لتقييد رسوم ترمب الجمركية، حثّ رئيس مجلس النواب مايك جونسون المشرّعين الجمهوريين على دعم الرئيس، قائلاً إن ترمب يستحق «حرية التصرف» في هذه القضية. وكان سبعة أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ قد انضموا إلى رعاية مشروع قانون مماثل في مجلس الشيوخ يطلب من البيت الأبيض الحصول على موافقة الكونغرس لفرض الرسوم.
وأعلن زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ جون ثون أن أي مشروع قانون يهدف إلى إعاقتها ليس له «مستقبل» في الكونغرس، ليعلن الجمهوريون، مساء الاثنين، عن مواصلة دعمهم لسياسات ترمب الجمركية. وقال السيناتور كيفن كريمر، الذي حذر من أن يصاب الناس بالذعر، إن «المخاوف بشأن الرسوم الجمركية لم تدفع بعد مؤيدي ترمب إلى النفور منه، لكن حتى أقوى مؤيديه قد يتراجعون عن موقفهم إذا بدأت تؤذي الأفراد، لكنني لا أعتقد أننا وصلنا إلى هذه المرحلة بعد».
حقائق
جمهوريو «وول ستريت» ينتقدون سياسات ترمب
بعد أشهر من تجنّب رؤساء الشركات الأميركية انتقاد سياسات الرئيس دونالد ترمب، أدت عمليات البيع المكثفة في السوق وتحذيرات عمالقة «وول ستريت» مثل بيل أكمان وجيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك «جي بي مورغان تشيس»، إلى إعراب المزيد من قادة الأعمال عن قلقهم علناً.
الملياردير كين غريفين، كبير المانحين الجمهوريين الذي يدير شركة صناديق التحوط «سيتادل»، وصف الرسوم الجمركية بأنها «خطأ سياسي فادح». وقال إنه من الخطأ أن تقول لعائلة من الطبقة المتوسطة أو ذات الدخل المحدود «سيكلفك ذلك 20 أو 30 أو 40 في المائة زيادةً في ثمن البقالة أو محمصة الخبز أو مكنسة كهربائية جديدة أو سيارة جديدة». وأضاف: «حتى لو تحقق حلم عودة الوظائف إلى أميركا، فهذا حلم يمتد لعشرين سنة، وليس 20 أسبوعاً. إنه ليس سنتن. إنه عقود».
أيضاً انتقد إيلون ماسك، أحد أكثر مستشاري ترمب نفوذاً، «أجندة» البيت الأبيض التجارية، «فاتحاً» سجالاً قاسياً مع مستشار ترمب التجاري، بيتر نافارو. ويوم الاثنين، نشر مقطع فيديو شهيراً للمرجع الاقتصادي ميلتون فريدمان وهو يروّج للتجارة الحرة، موضحاً كيف تتطلب مكوّنات قلم الرصاص سلاسل توريد معقدة.
وتوالت انتقادات كبار الرؤساء التنفيذيين الداعمين للجمهوريين، ولترمب خصوصاً، من أمثال بهرام أكرادي، الرئيس التنفيذي لسلسلة متاجر «لايف تايم»، وبريت شولمان الرئيس التنفيذي لسلسلة «كافا». وحتى كتب رايان كوهين، الرئيس التنفيذي لشركة «جيم ستوب»، على منصة «إكس» الأسبوع الماضي أن الرسوم الجمركية «تحوّلني ديمقراطياً».
حذَّر هؤلاء من أن خطة ترمب ستؤدي إلى ارتفاع تكاليف الشركات وانخفاض إيراداتها؛ ما سيخلق عوائق كبيرة أمام عمليات الإنتاج في جميع أنحاء العالم. لكن بعضهم توقع أن يكون التباطؤ الاقتصادي الخيار الأرجح من حرب تجارية شاملة، في حين يتحدث خبراء عن أن ما يجري قد يكون خطة لإعادة تمويل 7 تريليونات دولار من ديون أميركا، عبر خفض عوائد السندات الأميركية. وبحلول نهاية 2026، ستستحق تلك السندات التي سبق إصدار معظمها بين عامي 2020 و2022، بفائدة قريبة من الصفر، في حين أنها اليوم تجاوزت 4.5 في المائة. وبما أن كل ارتفاع بمقدار 1 في المائة في العائد يعني 90 مليار دولار إضافية في مدفوعات الفائدة سنوياً، هذا يعني أن تكلفة إعادة التمويل قد تكون باهظة ما لم تنخفض العوائد بسرعة.
بناءً عليه؛ يقول خبراء إن التعريفات الجمركية لا تهدف إلى حماية الصناعة الأميركية، بل إلى إبطاء النمو؛ ما سيخفّض الطلب على السلع ويؤدي إلى تراجع التضخم، وانخفاض العوائد طويلة الأجل. كل هذا سيتيح إعادة تمويلها بسعر منخفض، بعد بيعها، وهو ما حصل في الأيام الأخيرة، مع عمليات البيع غير المسبوقة التي شهدتها السندات الأميركية.
|