ما ينفع الناس يبقي والزبد يذهب جفاءً، هذه هي القناعة التي عاش بها رجل الأعمال الكويتي ومؤسس كمبيوتر صخر، محمد الشارخ، وعمل على تنفيذها عملياً طوال حياته، وحتى قبل رحيله عن عالمنا في 6 مارس/آذار الجاري، بعد أن قدّم للعالم العربي أهم إنجاز تكنولوجي من خلال تعريب الحاسوب وتأسيس صخر.
الطفولة وأيام الدراسة
في بيت يعشق اللغة العربية ويحب الشعر والأدب العربي، ولد الشارخ عام 1942. كان المتنبي في كل زوايا هذا البيت، حسب وصف الشارخ. فحب الوالد والوالدة للثقافة جعل الشارخ يقرأ كل ما يقع تحت يديه، إذ تشرّب الثقافة العربية والاعتزاز بلغته، وأصبح ذلك جزءاً من تكوينه، وهو ما غيّر مسار حياته بعد ذلك.
نشأ الشارخ في وسط أسرة بسيطة الحال، لذلك اضطر لترك دراسته في السنة الثانية من المرحلة الثانوية ليعمل ويساعد أسرته على تأمين متطلبات الحياة. فعمل في دائرة البريد والبرق والهاتف بالكويت، التي أصبحت فيما بعد وزارة المواصلات الكويتية.
على الرغم من ذلك، طموحه مع التعليم لم ينته، بل أصر على مواصلة رحلة تعليمه؛ فبعد عام من تركه مقاعد الدراسة، قرر العودة إليها إنما من المنزل، بجانب العمل، إذ كان يعمل صباحاً ويخصص الفترة المسائية للمذاكرة، إلى أن أنهى دراسته الثانوية.
يتحكم في حياة الإنسان شيئان، الاجتهاد وشيء من الحظ، هذا ما اكتشفه الشارخ في المرحلة التالية من حياته. فعقب اجتهاده في إنهاء المرحلة الثانوية أراد أن يدرس الفلسفة أو الصحافة. علم الملحق الثقافي الكويتي بالقاهرة آنذاك عبد الله الجار الله، وهو أحد أقرباء الشارخ، بدرجاته المرتفعة ورغبته في دراسة الفلسفة أو الصحافة، فنصحه بأن يبتعد عنهما وأن يسافر إلى القاهرة للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي افتتحت عام 1960. وكانت الدولة المصرية تهتم بهذا المجال في ذلك الوقت وتهتم بإسهام هذه الكلية في التحول الاقتصادي.
رحب الشارخ بذلك، والتحق بالكلية عام 1962، مدفوعاً بتأثره بالقومية العربية التي كانت مصر تدعو إليها في ذلك الوقت. وعقب التخرج من الكلية توجه إلى الولايات المتحدة لنيل درجة الماجستير في التنمية الاقتصادية، من كلية وليامز (Williams).
المرحلة العملية
هذه الفترة من حياة الشارخ جعلته يشعر بالفخر على الرغم من أنه لم يستمتع بشبابه حسبما صرّح؛ ففي فترة الدراسة كان يعمل من أجل متطلبات الحياة. عقب حصوله على درجة الماجستير عاد إلى الكويت، ليصبح ضمن ثالث دفعة تتسلم مناصب حكومية في الدولة الحديثة عقب الاستقلال عام 1961، من خريجي الجامعات، وكان لديه الطموح للإسهام في بناء الوطن.
في شبابه، عمل الشارخ في صندوق الكويت للتنمية عام 1969، ويؤكد أنه لم يكن يهتم فقط بالوظيفة والمرتب والبيروقراطية، وإنما كان مهتماً بالتنمية. وبعد عامين أصبح نائب المدير العام، ورأى الشارخ في ذلك تجربة ثرية، خصوصاً مع زيارته لأغلب الدول العربية في ذلك الوقت من أجل اتفاقيات خاصة بالصندوق، وقابل رؤساء دول وحكومات في سن صغيرة بالعشرينيات من عمره.
منصب الشارخ في صندوق الكويت جعله يتعامل مع أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد، والذي كان له دور في تغير مسار حياة الشارخ، فقد اقترح عليه أن يمثل المجموعة العربية في البنك الدولي. لذلك ترك الصندوق وسافر إلى واشنطن للانضمام إلى مجلس إدارة البنك الدولي.
واجه الشارخ موقفاً صعباً في أثناء عمله بالبنك الدولي، وهو توبيخه من قبل وزير المالية السعودي الأمير الراحل مساعد بن عبد الرحمن، وذلك عام 1973، وهو العام الذي حدثت به طفرة نفطية بالخليج، وكان البنك الدولي يريد جمع مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة، وطلب رئيس البنك من الشارخ التوجه إلى دول الخليج للإسهام في هذا المبلغ.
ورفض وزير المالية السعودي هذا الأمر، وقال للشارخ "هل أنت عربي ومسلم، هل تريدنا أن ندفع أموالنا لأميركا لمساعدة الفقراء، فلماذا لا نقوم بذلك بأنفسنا". لم يستطع الشارخ الرد عليه، وكان يرى أن كلماته مثل الرصاص.
العودة إلى الكويت كانت قدر الشارخ دائماً، ففي أثناء عمله بالبنك الدولي اتصل به وزير المالية مؤكداً له أن الشيخ جابر الأحمد يريده أن يعود إلى الكويت ليؤسس بنك الكويت الصناعي. لم يتردد الشارخ وعاد ليؤسس البنك.
وجد الشارخ أن مباني البنوك بالكويت بسيطة بعد أن رأى المؤسسات المالية الفخمة حول العالم، فاقترح على رئيسي البنك العقاري وبنك الكويت تقديم اقتراح للشيخ جابر لتخصيص قطعة أرض لبناء البنوك عليها، وقد وافق على الاقتراح، وتم بناء مباني البنوك الثلاثة الباقية حتى الآن.
استمر الشارخ في رئاسة البنك مدة 7 سنوات، لكنه وجد صعوبة في إرضاء رجال الأعمال، فلم يكن يقتنع بمشاريع بعضهم لتمويلها، وكانوا يشتكونه لأمير الكويت والحكومة، ولم تقف معه الحكومة في هذا الوقت، فترك البنك بعد أن أصبح لديه إحساس بأن الحكومة تخلت عنه، وهو السبب الذي سيجعله يرفض مساهمة الحكومة في شركة صخر فيما بعد.
قصة نجاح صخر
خلال عمله في البنك الدولي أصبح لدى الشارخ حاسب آلي لأول مرة في حياته وذلك للعمل عليه ضمن مكتبه، وشاهد الإمكانيات الهائلة للحاسب وقتها، ولأنه كان متعلقاً باللغة العربية منذ صغره، كان يتساءل لماذا لا يتم تعريب الحاسب؟ وكان يدرك أن الشركات الدولية لن تستثمر في ذلك، لأنها مسؤولية أهل اللغة العربية، ولم يعلم وقتها أنه هو من سيقوم بتلك الخطوة.
عقب رحلته مع بنك الكويت الصناعي فكر في التوجه إلى تأسيس مشروعه الخاص، فأسس الشركة العالمية للإلكترونيات في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وكانت وكيلاً لبرامج الألعاب الإلكترونية أتاري، ثم أنشأ صخر باعتبارها شركة تابعة للعالمية.
عاد الشارخ إلى لحظة مشاهدته للحاسب الآلي بالبنك الدولي، فقرر أن يبدأ مشروعاً يقوم بتعريب الحاسب بنفسه، فأسس الشركة عام 1982 في الجابرية بالكويت.
عملية اختيار اسم الشركة استمرت 4 أشهر، إذ تعاقد الشارخ مع شركة يابانية مختصة في العلامات التجارية، وأشارت إلى أن الاسم يجب ألا يكون طويلاً، وأن يكون اسماً وليس فعلاً، وكانت هناك مجموعة أسماء منها صخر الذي استقر عليه الشارخ؛ بسبب بيت شعر للخنساء تقول فيه "وإن صخراً لتأتم الهداة به"، ولأن هذا الاسم يرمز إلى القوة والصلابة.
لم يكن لدى الشارخ الأموال الكافية لتأسيس الشركة، ولذلك اقترض 3 آلاف دينار من صديقه أبو عبد الله الأحدان، وسددها له فيما بعد، بجانب حصوله على تسهيلات من بنك كويتي بقيمة 15 ألف دينار.
لم يكن الشارخ يعلم إن كان مشروعه سينجح أم لا، لذلك رفض أن يكون معه أي شريك، وعندما سأله فيما بعد ملك المغرب الحسن الثاني عن سبب ذلك، أجابه قائلاً "حتى إذا فشل المشروع أخسر أموالي ولا أخسر سمعتي".
وكان ملك المغرب قد طلب مقابلة الشارخ في أواخر ثمانينيات القرن الماضي لتحيته على برنامج القرآن الكريم الذي طرحته صخر.
يشرح الشارخ فكرة تعريب الحاسب الآلي، مشيراً إلى أن أجهزة الحاسب كانت تعرف الكلمات العربية، لكن ما قامت به صخر هو رقمنة قواعد اللغة العربية من الصرف والنحو، فمثلاً لم يكن الحاسب يعرف التشكيل، حيث يتغير معنى الكلمة حسب تشكيلها، فتعريف الحاسب بقواعد الصرف والنحو هي الخاصية التي قدمتها صخر.
استدعى الشارخ خبيرة من إنجلترا وعين مهندسين ومبرمجين أشرفت الخبيرة عليهم وعلى تدريبهم، وقدمت الشركة الصرف الآلي والتصريف، وقدمت أول نسخة رقمية من القرآن الكريم.
كان لدى الشارخ قلق من عدم إجازة المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية لهذه النسخة، وقابل مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن باز ليعرض عليه البرنامج. دهش الشارخ حين أجاز بن باز برنامج القرآن الكريم، لتقدم الشركة عقب ذلك كتب الحديث النبوي.
انطلقت الشركة عقب ذلك في إنتاج البرامج المعرّبة، ثم اتجهت لإنتاج أجهزة كمبيوتر صخر، واختارت نظاماً خاصاً من مايكروسوفت اسمه إم إس إكس (MSX)، لتبيع الشركة خلال مسيرتها أكثر من مليون جهاز، وأكثر من 5 ملايين برنامج في كل الوطن العربي.
أزمات وطعنة بالظهر
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تعرض الشارخ لأصعب أزمة هددت شركته، وذلك في أثناء الغزو العراقي للكويت عام 1990، وقال إن مكالمات كانت تأتيه تشير إلى أن الشركة تُسرق لكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً.
لم يكن أمام الشارخ حل سوى أن يجمع برامج الشركة على قرص صلب (Hard Disk) ويتوجه به إلى الرياض، وكان يفكر في هذا الوقت أن يوقف الشركة نهائياً، خصوصاً مع وجود المهندسين والموظفين في الكويت وعدم قدرتهم على الخروج منها.
بعد توجهه للرياض، وجد الشارخ أن مصر هي أنسب مكان في ذلك الوقت لاستمرار الشركة، وتحدث مع رئيس الوزراء آنذاك عاطف عبيد، وطلب منه نقل الشركة إلى مصر والمساعدة في جلب الموظفين من الكويت، فوافق على ذلك.
لم تكن تلك الأزمة هي الوحيدة التي واجهها الشارخ، فقد واجه أزمة أخرى مع شركة مايكروسوفت، إذ كان ثمة اتفاق معها على تعريب نظام ويندوز (Windows)، وفي نفس عام الغزو سافر المدير الفني لشركة صخر ونائبه إلى شركة مايكروسوفت لتنفيذ الاتفاق، لكن مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس عرض عليهما التعيين في شركته، فوافقا، وأخلّ بالاتفاق.
اعتبر الشارخ هذا التصرف طعنة من الخلف، ورفع دعوى قضائية ضد مايكروسوفت. واجه الشارخ اتهامات من محامي مايكروسوفت أمام المحلفين بأنه ضد الرأسمالية، ووجد الشارخ أنه لن يحصل على شيء جراء الدعوى القضائية لأنه عربي، وقام بالتسوية خارج المحكمة، ببنود كان أولها منع ذكر تفاصيل التسوية.
شعر الشارخ أن الغزو وأزمته مع مايكروسوفت ضربتان تقصمان الظهر، ورفض طلباً من وزير المالية الكويتي عقب الغزو أن تدخل الحكومة مساهماً معه في الشركة، فكان الرفض رداً على موقفها معه عندما كان رئيس مجلس إدارة البنك الصناعي، وهو يرى أن هذا القرار كان صائباً لرغبته في الابتعاد عن بيروقراطية الحكومة.
بسؤال الشارخ عما إذا كانت صخر ضلت الطريق مثلما ضلت شركة نوكيا الأميركية الطريق، وذلك بتوقفها عن إنتاج كمبيوتر صخر واقتصارها على البرمجيات، أجاب بأن ذلك كان بسبب الضربات التي تلقتها الشركة، وفي نفس الوقت هو لم يكن باحثاً عن المال، بل يرى نفسه صانعاً لهذا المال، ولا يجد المتعة في تجميعه، وأن متعته طوال حياته في المثابرة، وفي أن يضيف لمجتمعه شيئاً مفيداً، وعندما كبر في السن أصبح يرى تلك المتعة في أحفاده.
وقد حققت الشركة العديد من الخطوات الناجحة، وحصلت على 3 براءات اختراع من هيئة براءات الاختراع الأميركية في التكنولوجيا، وقدرت إحدى الشركات الأميركية قيمة صخر بعد 15 عاماً من العمل بـ 250 مليون دولار.
جوائز وتكريمات
تكريماً للدور الذي قام به في تعريب الحاسوب حصد الشارخ العديد من الجوائز من مؤسسات عربية مختلفة، منها جائزة صاحب الرؤية الإلكترونية بالإمارات عام 2002، تقديراً لإنجازاته في مجال صناعة البرامج العربية، وجائزة الرواد من مؤسسة الفكر العربي عام 2004، وجائزة الدولة التقديرية في الكويت عام 2018، وجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عامي 2005 و2021.
وأشار الشارخ إلى أنه كان يشعر بسعادة طاغية بسبب تلك التكريمات، إذ إنه كان متعوداً على أن التكريم يأتي بعد الوفاة، لكنه كُرّم وهو على قيد الحياة.
الرواية والأدب
في عام 2005 وجد الشارخ أن من حقه أن يرتاح من إدارة الشركة، فعهد إلى ابنه فهد القيام بهذا الدور، ليتفرغ للاهتمام بالثقافة.
لم يكن اهتمام الشارخ منصبّاً فقط على التكنولوجيا، لكنه أيضاً كان متعلقاً بالأدب، فألف بعض الروايات والقصص، منها قصة قيس وليلى والتي نشرها عام 1968 قبل أن يتنحى عن عرش شركته، ثم ألّف مجموعة قصصية بعنوان "الساحة" ونشرت عام 2012، ومجموعة أخرى بعنوان أسرار نشرت عام 2017، ورواية العائلة التي نشرت عام 2018.
لم يكن الشارخ ينظر إلى نفسه أديباً، لكنه يكتب لأنه يريد أن يكتب، وكان الأدب بالنسبة له مخزوناً إنسانياً كبيراً كان ينقله إلى الورق.
عام 2016، بدأ مشروعه الذي أسماه أرشيف الشارخ، والذي يجمع المجلات الأدبية الثقافية العربية على شبكة الإنترنت، بهدف الحفاظ على التراث الثقافي العربي.
مشوار الشارخ، على الرغم من التحديات، يدفعه للشعوره بالفخر، لأن الشركة التي انطلقت من الكويت واستقطبت العقول المميزة في مختلف البلدان العربية استطاعت أن تصل إلى العالمية، وأن تكرس مكانتها الريادية في حقل تقنية المعلومات العربية، وقد حقق كل ذلك على الرغم من كل الصعوبات التي واجهها.
عاش الشارخ سنواته الأخيرة يرى المتعة في أحفاده وليس في المال، ممتناً لزوجته التي ساعدته كثيراً في صخر، والتي عاونته وأشرفت على العديد من برامج الشركة ومنها برنامج القرآن الكريم.