التعليم من أجل الابتكار والتعلم المستقل

18-03-2023 10:47 AM - عدد القراءات : 295
كتب أ.د.سعد علي الحاج بكري الاقتصادية
هذا العنوان ليس لهذا المقال فقط، بل إنه عنوان لكتاب أجنبي مترجم إلى العربية، وصادر في 2017، عن مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة". ونظرا إلى أهمية موضوع الابتكار وإعداد المبتكرين ورعايتهم، بل نظرا أيضا إلى تزايد هذه الأهمية أيضا بسبب البيئة الحية للتنافس المعرفي العالمي، خصوصا لدى أبناء الأمم الطموحة، يحاول هذا المقال، وكذلك مقالا الأسبوعين المقبلين، إلقاء بعض الضوء على معطيات رئيسة مهمة، تم عرضها في هذا الكتاب، ومناقشة مضامينها.
التعليم من أجل الابتكار والتعلم المستقل


يبحث الكتاب في التفاعل الثلاثي بين العلم والتقنية والابتكار ودور التعليم والتعلم المستقل في هذا التفاعل، ويقدم الكتاب أمثلة في هذا المجال من كل من إنجلترا والبرازيل. فمؤلفا الكتاب ينتميان إلى هذين البلدين ويتمتعان بخبرة عملية في شؤونهما. المؤلف الأول هو "رونالدو موتا Ronaldo Mota"، وكان مسؤولا سابقا في مجال التطوير المهني والابتكار في وزارة العلوم والتقنية البرازيلية، والمؤلف الثاني هو "ديفيد سكوت David Scott"، وكان مديرا سابقا لمركز التعليم والتعلم في جامعة لندن.

يطرح هذا المقال، والمقالان التاليان، ثلاثة معطيات رئيسة قدمها الكتاب. يختص هذا المقال بأول هذه المعطيات، ويشمل بيان مفاهيم التعلم والتعليم والابتكار، وطرح مسألة تطوير التعليم، إلى جانب تطوره السابق عبر العصور. ويركز المقال الثاني على المعطى الثاني الذي يعرض موضوع تطوير التعليم باتجاه الابتكار، ويلقي الضوء على بيئة التعلم، وعلى نموذج عام لإصلاح التعليم، كما يقارن بين خصائص كل من التعليم التقليدي من جهة، والتعليم الابتكاري من جهة أخرى. أما المقال الثالث فيهتم بثالث المعطيات الذي يتضمن توجهات التعليم المطلوبة نحو الابتكار، ويطرح خصائص التعليم المستقل، ثم يعطي مثالين مهمين حول الخبرات السابقة، أحدهما من إنجلترا، والآخر من البرازيل.

إذا بدأنا بمفاهيم التعلم والتعليم والابتكار، نجد أن التعلم يتضمن الاستحواذ على المعرفة أو المهارة عبر الدراسة الذاتية، أو الخبرة، أو عبر التعليم. أي أن التعليم وسيلة للتعلم، لكن إجراءات هذه الوسيلة تختلف وتتطور عبر العصور، ولا تزال على هذا التطور في عصرنا الحاضر، وكذلك في عصور المستقبل أيضا. أما الابتكار فهو إبداع ينبع من العقل البشري، الذي كثيرا ما يتأثر بخيال الإنسان، ومدى قدرته على التفكير. ويتميز الابتكار في أن إبداعه يحمل قيمة، ربما تكون تقنية أو تنظيمية أو تسويقية، أو ربما فنية أو اجتماعية، تستطيع الإسهام في التنمية. وعلى هذا الأساس تبرز الحاجة إلى تطوير التعليم نحو جعل مخرجاته أكثر قدرة على الابتكار وتحقيق التنمية التي يحتاج إليها الجميع أفرادا ومؤسسات ودولا، بل يتنافسون أيضا في السباق على تحقيقها.

ينطلق الكتاب في طرحه لمسألة تطوير التعليم من جملة مأثورة تقول، "لو علمنا طلبة اليوم، كما كنا نعلم طلبة الأمس، فإننا نسلبهم مستقبلهم". ولعل المعنى المقصود من هذا القول هو أن متطلبات العصور تتغير، خصوصا مع التقدم المعرفي المتسارع. وعلى ذلك، لا بد للتعليم من أن يتطور مواكبا لهذا التقدم، لكي يستطيع إعداد الأجيال الجديدة لمتطلبات المستقبل، ويؤهلهم أيضا بالإمكانات المناسبة للتميز فيه. ويطرح الكتاب، في مسألة تطوير التعليم هذه، أربعة متطلبات أولية عامة مأخوذة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو".

يقضي المتطلب الأول لتطوير التعليم، بالاهتمام "بالموضوعات المحلية الخاصة بالبلد المقصود". ويهتم المتطلب الثاني لتطوير التعليم، بأخذ الموضوعات "البيئية والاجتماعية"، وكذلك "الجوانب السياسية"، في الحسبان. ويركز المتطلب الثالث على "شؤون المستقبل"، ويشمل ذلك الارتقاء بثقافة المواطنة والواجبات المطلوبة من كل فرد من أجل تحقيق مجتمع مستدام، ويشمل هذا المتطلب أيضا التركيز على المعارف والمهارات الحديثة الحية المطلوبة للتعامل مع العصر. ويبرز المتطلب الرابع، إضافة إلى ما تقدم، ضرورة الاهتمام بشؤون البعد الدولي، وقضايا عولمة التعليم.

يطرح الكتاب تطور التعليم عبر الزمن من خلال نظرة تشمل ثلاث ثورات تعليمية رئيسة شهدها العالم. أول هذه الثورات، كما يبين الكتاب، بدأت في بلاد الإغريق، جنوب أوروبا، على البحر الأبيض المتوسط، وذلك في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. فقد برزت في تلك الفترة أسماء مهمة في تاريخ المعرفة مثل "سقراط وأفلاطون وأرسطو"، وظهرت مدرسة أفلاطون الشهيرة المعروفة بـ"الأكاديمية"، ثم مدرسة أرسطو المعروفة بـ"الليسيوم". أي أن الثورة التعليمية الأولى تميزت بظهور المدارس، واعتمدت بشكل رئيس على طروحات المعلمين من جهة، وعلى تعليم التفكير عبر الحوار وطرح التساؤلات من جهة أخرى. لكن أعداد المتعلمين المنتسبين إلى تلك المدارس كانت محدودة.

انتشرت المدارس حول العالم وتأثرت بالطبع بثقافات الأمم التي انتشرت فيها. ومضى الزمن قرونا وقرونا، حتى ظهرت الثورة التعليمية الثانية في نحو القرن الـ15 للميلاد. ويعد الكتاب أن تميز هذه الثورة لم يكن بانتشار المدارس وظهور الجامعات، لكنه يتجلى بظهور الكتاب وانتشاره، كمصدر جديد للمعرفة يتطلب مؤلفا بعيدا غائبا، وليس مدرسا قريبا حاضرا. هكذا برز التعلم المستقل عبر الكتاب بعيدا عن المدرسة، وظهر التوجه نحو الكتب الوظيفية التي تهتم بموضوعات التقنية والمهارات وتواكب متطلبات سوق العمل. لكن هذا التعلم لم ينتشر بالقدر المأمول، نظرا إلى مشكلة الأمية التي كانت تحتاج إلى مدارس الثورة التعليمية الأولى. وهكذا كانت "كتب" الثورة التعليمية الثانية إضافة تراكمية إلى "مدارس" الأولى، وليس إلغاء لها.

انطلقت الثورة التعليمية الثالثة، طبقا للكتاب، مع مطلع القرن الـ21 الذي نعيش فيه. وإذا كانت "المدرسة" هي رمز الثورة التعليمية الأولى، و"الكتاب" هو رمز الثانية، فقد كان رمز الثالثة هو "التقنية الرقمية". وكما هو الحال فيما سبق، لم تكن هذه الثورة إلغاء لسابقتيها، بل كانت إضافة تراكمية إلى كل منهما. وتتمثل هذه الإضافة باستخدام التقنية الرقمية في كل من النشاطات المدرسية التعليمية، وفي نشر الكتب بنسخ إلكترونية، وربما إضافة فعاليات ذكية خاصة، مع توفير ذلك للجميع حول العالم، وفي جميع الأوقات. وسنتابع في المقالين المقبلين معطيات الكتاب الرئيسة الأخرى

يطرح معطى رئيسا آخر، يرتبط بمسألة تطوير التعليم باتجاه الابتكار. ويشمل ذلك بيان العوامل الرئيسة المؤثرة في بيئة التعليم، إلى جانب عرض نموذج عام لإصلاح التعليم. ويتضمن ذلك أيضا إيضاح الفرق بين خصائص التعليم التقليدي القائمة على أرض الواقع، وخصائص التعليم الابتكاري المنشود. وتبقى لنا معطيات رئيسة أخرى للمقال المقبل تتمثل في التوجهات المطلوبة لبناء التعليم الابتكاري المطلوب، وبيان خصائص التعليم المستقل، وإلقاء الضوء على أمثلة تعليمية متميزة قائمة في كل من إنجلترا والبرازيل.
إذا بدأنا ببيئة التعليم في أي دولة من الدول، نجد أنها ترتبط، بأربعة عوامل رئيسة. يهتم عاملها الأول بالحالة التعليمية العامة التي تتعلق بكل من ثقافة المجتمع وحالته المعرفية من جهة، وأنظمة التعليم ومؤسساته القائمة على أرض الواقع من جهة ثانية. ويرتبط العامل الثاني بالموارد والتقنيات المتاحة كميا ونوعيا، إضافة إلى مدى توافقها مع الاحتياجات القائمة. ويركز العامل الثالث على عملية التعلم، بما يشمل العلاقة بين المعلم والطالب، وما يتضمن نظرية التعلم وأساليب تحقيق التعلم المنشود. ثم ينظر العامل الرابع إلى البيئة التعليمية بمنظار عالمي واسع النطاق، يشمل المصادر المعرفية المتاحة على مدى العالم بأسره.
وننتقل إلى إصلاح التعليم، حيث يعرض نموذجا عاما لهذا الإصلاح، منطلقا من عوامل بيئة التعليم، ومبنيا على أربعة متطلبات رئيسة. يرتبط أول هذه المتطلبات بالدور التوجيهي للدولة والأثر الفاعل لهذا الدور في تحقيق الإصلاح المطلوب. ويهتم المتطلب الثاني بالحاجة إلى إصلاح تعليمي يسعى إلى تحقيق رغبات السوق، أي المتطلبات المهنية التي يحتاج إليها المجتمع ويتطلع إلى وجودها في مخرجات التعليم. ثم يركز المتطلب الثالث على ضرورة الاعتماد على أصحاب الخبرة لكي يكون الإصلاح مبنيا على أسس سليمة، تستند إلى تجارب موثقة، ومعرفة مدعمة بمضامين فكرية وحجج منطقية. ويؤكد المتطلب الرابع، بعد ما تقدم، المشاركة الاجتماعية في الإصلاح، والمقصود هنا هو إتاحة الفرصة أمام أصحاب العلاقة بالتعليم، وهم أبناء المجتمع بأسره، إبداء ملاحظاتهم ومرئياتهم في احتياجات الإصلاح المنشود.
ونصل إلى مناقشة الفرق بين خصائص التعليم التقليدي القائم على أرض الواقع، وخصائص التعليم الابتكاري الذي نتطلع إليه. وفي هذا الشأن، ستة مجالات رئيسة لهذه الخصائص، تتيح مقارنتها وبيان نقاط الاختلاف فيما بينها. يرتبط المجال الأول للخصائص المطروحة بالأساس، أو المبدأ، الذي يستند إليه التعليم. ويرى الكتاب هنا أن أساس التعليم التقليدي هو "التلقين"، وأن أساس التعليم الابتكاري هو "التساؤل". ولعل من المناسب هنا ذكر أن سقراط، وهو من أهم شخصيات الثورة التعليمية الأولى، اعتمد في تدريسه لطلابه على التساؤل وليس على التلقين.
وتجدر الإشارة إلى أن العالم الشهير أفلاطون، صاحب "الأكاديمية"، كان من تلامذة سقراط، كما أن أرسطو الشهير أيضا، وصاحب "الليسيوم"، كان بدوره من تلاميذ أفلاطون. وعلى الرغم من أن هذه المدارس الأولى اعتمدت على أسلوب سقراط في التساؤل، إلا أن الأعوام بعد ذلك رجحت التلقين تدريجيا في المدارس التي انتشرت على نطاق واسع حول العالم. وقد يكون السبب هو أن أسلوب التلقين يسمح بإدراج مادة علمية أكبر في مناهج التعليم من أسلوب التساؤل، لكن التساؤل يبقى وسيلة مهمة لتفعيل التفكير، وتعزيز الابتكار الذي تحتاج إليه التنمية وتسعى إليه.
يطرح الكتاب موضوع العلاقة بين حقول المعرفة في التعليم كمجال من مجالات رصد الخصائص بين التعليم التقليدي والتعليم الابتكاري. وهو يرى أن التعليم التقليدي يمارس عزلا تاما بين حقول المعرفة، وأن هذا العزل جزئي فقط في التعليم الابتكاري. ويتجلى العزل في حقول المعرفة في تقسيمات الكليات والأقسام في الجامعات. لكن هناك أفكارا وممارسات كثيرة تسعى إلى تمكين الطلاب من دراسة حقول مختلفة تناسب متطلبات السوق، إضافة إلى إجراء البحوث في موضوعات ترتبط بأكثر من حقل معرفي.
وهناك بعد ذلك في مجالات الخصائص موضوع توجه التعليم، حيث يرى الكتاب أن التعليم التقليدي يتوجه أساسا نحو اكتساب المعرفة، بينما يوسع التعليم الابتكاري دائرة اهتماماته لتشمل الاستجابة للميول وتحصيل ليس فقط المعرفة، بل المهارة أيضا. أي أن التعليم الابتكاري يختلف عن التعليم التقليدي في هذا المجال، حيث يتمتع بنظرة أكثر اتساعا لمتطلبات الحياة، واستجابة أكبر لهذه المتطلبات.
ويطرح الكتاب مجالين للعلاقات في إطار التعليم. أولهما العلاقة بين المعلم والطالب التي يراها أقل انعزالا في التعليم الابتكاري عنها في التعليم التقليدي، نظرا إلى التواصل الذي يتيحه. أما العلاقة الثانية فهي بين المتعلمين، حيث يراها أيضا أقل انعزالا في التعليم الابتكاري. وفي المجال السادس والأخير للخصائص التي يطرحها الكتاب، وهو مجال المكان. يرى الكتاب أن التعليم التقليدي محدد المكان، سواء كان هذا المكان حضوريا أو افتراضيا، لتنفيذ التلقين المطلوب، لكن التعليم الابتكاري غير محدد المكان، حيث يمكن اللقاء وتبادل الآراء والشراكة في الأفكار في أي مكان، وفي أي وقت، كأوقات الإجازات والرحلات المشتركة. ولنا عودة في المقال المقبل لاستكمال طرح المعطيات المهمة



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>