البشرية والتحديات المرتبطة بالتقنيات

11-08-2022 01:10 PM - عدد القراءات : 226
كتب ج. برادفورد ديلونج *نائب مساعد وزير الخزانة الأمريكية الأسبق، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي
في يومنا هذا، أصبحت البشرية جمعاء أغنى من أي وقت مضى. ومع ذلك، هناك شعور واسع النطاق بأن الأمور لا تسير على ما يرام، بما في ذلك ما نعيشه من تحد قصير المدى بسبب الوباء، والتهديد الوجودي للكوارث الطبيعية والبيئية. وتعطي بداية العام الجديد آمالا جديدة، لكن هل التشاؤم هو الافتراض الأنسب؟.
البشرية والتحديات المرتبطة بالتقنيات


وللإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن ننظر إلى وضعنا الحالي في سياق أوسع. إذ خلال العشرة آلاف عام الأولى بعد اختراع الزراعة، لم تكن لدى البشرية فرصة لتحقيق مجتمع يشبه "المدينة الفاضلة"، بغض النظر عن كيفية تعريف المرء لهذا المصطلح. وبعد ذلك، في عهد آبائنا وأجدادنا، ظهر شيء يقترب من تلك المثالية. ومع ذلك، أخفقنا مرارا وتكرارا في استيعابه. وكما كان صديقي الراحل ماكس سينجر يقول، سيظل "العالم البشري" حقا بعيد المنال حتى نكتشف سياسات توزيع الثروة.
وحتى أجيال قليلة مضت، سارت البشرية على نهج الباحث مالتوس. إذ مع التقدم التكنولوجي البطيء والوفيات المرتفعة للغاية، كان حجم السكان هو كل شيء. وفي عالم ليس لدى ثلث نسائه من المسنات أبناء أو أحفاد على قيد الحياة، ومن ثم، انعدام القوة الاجتماعية، كان هناك ضغط هائل لإنجاب مزيد من الأطفال خلال أعوام الإنجاب. وأدى النمو السكاني الناتج "من دون نمو متناسب في حجم المزارع" إلى إلغاء المكاسب التي حققت في الإنتاج، والدخل من التكنولوجيا المتقدمة، وأبقى مستويات المعيشة النموذجية منخفضة وراكدة.
وكانت أفضل فرصة أمام المجتمع المالتوسي لتحقيق السعادة النسبية هي تعزيز عادة تأخير الزواج، ومن ثم، خفض معدل المواليد. وأمام مشكلة النمو السكاني غير المستدام، كانت هذه الممارسة بمنزلة حل اجتماعي وليس بيولوجي "الذي اتخذ شكل سوء التغذية". وفي الوقت نفسه، أفضل فرصة أمام النخبة لتحقيق السعادة هي ابتكار عملية سلسة لاستخراج الثروة من المزارعين والحرفيين.
إننا الآن في العقد الثالث من القرن الـ 21، وقد مرت البشرية تقريبا بما يسميه علماء الاجتماع التحول الديموغرافي، أي التحول من معدلات المواليد والوفيات المرتفعة إلى معدلات الوفيات المنخفضة، بفضل التنمية الاقتصادية والتقدم التكنولوجي. ولم تعد نظرية الضغط السكاني لمالتوس تبقينا فقراء. إذ تتجاوز إنتاجيتنا إنتاجية جميع الأجيال السابقة إلى حد كبير، كما أنها في نمو مستمر. وخلال الجيلين المقبلين، سنحقق نموا نسبيا في قوتنا التكنولوجية بقدر ما حققه أسلافنا في 1870، منذ الهجرة الكبرى من إفريقيا قبل 50 ألف عام.
وفي عديد من دول العالم، هناك بالفعل ما يكفي من الثروة لضمان عدم شعور أي شخص بالجوع، أو حرمانه من مأوى، أو تعرضه لعديد من المخاطر الصحية التي كانت في الماضي تقلص من أمد حياة معظم الأشخاص. وهناك ما يكفي من المعلومات ووسائل الترفيه بحيث لا يشعر أحد بالملل. وهناك أيضا ما يكفي من الموارد التي تسمح للجميع بإيجاد أهداف أيا كانت، والسعي لتحقيقها. صحيح أنه لن يكون هناك ما يكفي من الحياة الكريمة لإرضاء الجميع، ولكن إذا كنا على استعداد لقبول الكرامة الأساسية على مستوى العالم، فلم يعد هناك أي سبب مادي يجعلنا نمتلك مجتمعا يشعر فيه الناس بعدم الاحترام..

هناك أسئلة كثيرة تطرح على أرض الواقع حول التحديات التي تواجه البشرية عموما ومنها: لماذا تبدو الأمور كأنها تسوء؟ أولا، أخفق العالم في بناء مؤسسات حوكمة يمكنها إدارة المشكلات العالمية مثل تغير المناخ. إذ كان من الممكن التعامل مع هذا التحدي بتكلفة منخفضة للغاية منذ جيل مضى. والآن، سيترتب على برامج تجنب وقوع الكوارث، والتكيف مع التغيير القائم بالفعل تكاليف أولية أكبر بكثير. وما الغاية من ذلك؟ فقط لتستمر ثروة البارونات لبضعة أعوام أخرى؟.
ثانيا، توزع ثروة العالم التي لم يسبق لها مثيل بطريقة غير معقولة ومروعة وإجرامية. فقد يكون لدى المليار شخص الذين يعيشون في الحضيض هواتف ذكية وبعض الفرص للوصول إلى الرعاية الصحية، إلا أنهم من نواح كثيرة، ليسوا أفضل حالا من أسلافنا قبل عصر الصناعة في عهد "مالتوس". لقد مر 75 عاما منذ أن أضاف الرئيس الأمريكي هاري ترومان، التنمية الاقتصادية العالمية إلى أجندة الشمال العالمي بحكمة. ورغم أنه كان سيكون سعيدا لو اكتشف أن الجنوب العالمي أصبح الآن أكثر ثراء مما كان عليه عام 1945، إلا أنه كان سيصاب بخيبة أمل كبيرة لو اكتشف أن الفجوة النسبية بين الدول الغنية والنامية كبيرة كما كانت دائما.
وعلى ما يبدو حتى الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة غير قادرة على التوزيع المناسب للثروة الهائلة التي صنعتها اقتصادات ما بعد الصناعة الحديثة. لقد كذبت العقود الأربعة الماضية الادعاء النيوليبرالي القائل: إن المجتمع غير المتكافئ من شأنه أن يطلق طاقات ريادية هائلة، ما يحقق المكاسب للجميع. ومع ذلك، تتعرض السياسات التي تمنح الرفاهية والمنفعة، والكرامة للجميع لحظر مستمر.
إن إحدى العقبات الرئيسة أمام هذه السياسات هي فكرة أن بعض الأشخاص غير الأغنياء في المجتمع لا يستحقون أكثر بل أقل. وطالما طبقت هذه الفكرة على ذوي الأصول الإسبانية والأمريكيين من أصول إفريقية في الولايات المتحدة، والمسلمين في الهند، والأتراك في بريطانيا، وجميع أولئك الذين عانوا قومية الدم والتراب. ويبدو أن كثيرين الآن يعتقدون أن رؤية التنوير للمساواة البشرية كانت خاطئة وينبغي استبدالها بالمبدأ الأرسطي القائل: "من الظلم معاملة غير المتساوين على قدم المساواة".
والعقبة الأخرى اقتصادية إذ طالما كان يفترض أن التكنولوجيا، ورأس المال، والعمالة دائما ما ستستخدم في نهاية المطاف كمكملات، لأن كل مهمة من المهام الآلية ومهام معالجة المعلومات ستظل بحاجة إلى إشراف بشري. لكن التقنيات التي نستخدمها في معالجة المعلومات متفوقة على نظامنا التعليمي، وأصبح الأمل في التكامل المتناغم حلما بعيد المنال.
إن تغير الكوارث الطبيعية والبيئية والقومية والتحديات المرتبطة بالتقنيات الجديدة ليست سوى بعض المشكلات الكبيرة التي ستواجهها البشرية في عقود ما بعد الوباء. وفي أول خطاب افتتاحي ألقاه فرانكلين دي روزفلت، أشار هذا الأخير إلى الأمثال 29:18 التي تقول: "عندما تنعدم الرؤية، يموت الناس ..." وما لم تظهر هذه الرؤية بشأن عصرنا وإلى أن يحدث ذلك، لن يرى الناس سوى الكآبة في المستقبل.



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>