هل الحضارة المعقدة هِبة الحرب؟

21-07-2022 06:43 AM - عدد القراءات : 347
كتب ندى حطيط الشرق الاوسط
يبدو أن السياق التقليدي لتقسيم العلوم بين بحتة ونظرية قد شرع في التلاشي مع القفزات الهائلة التي خطتها تكنولوجيا المعلومات منذ بداية القرن الحادي والعشرين وتلك الآفاق التي شرعتها أمام دارسي الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، والآثار والتاريخ والاجتماع، واللغات، والأديان، والجغرافيا. ولم يعد كافياً اليوم الاكتفاء بالأبحاث المستندة إلى أدوات النصوص السابقة أو اللقى المرتبطة بجغرافية معينة أو الرصد لظواهر حدودها الحواس، بعدما مكنتنا التطبيقات الحديثة من تخطى سقوف الإدراك البشري بأدوات قياس دقيقة ونمذجات رياضية عبرت بنا نحو مستويات وعي غير مسبوقة، ولم تخطر من قبل على قلب بشر.
هل الحضارة المعقدة هِبة الحرب؟

ولعل الجدل الذي أثاره كتاب ديفيد وينغرو؛ البروفسور في علم الآثار المقارن في «كلية لندن الجامعية»، وزميله دكتور الأنثروبولوجيا الأميركي الراحل ديفيد جريبر، مثال حي على ذلك بعدما قدما على صفحات «فجر كل شيء: نحو تاريخ جديد للإنسانية*» مرافعة صادمة ضد مبدأ وجود نموذج خطي لتطور المجتمعات البشرية حضارياً باتجاه مزيد من التعقيد. وكانت أجيال من المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا والفلاسفة قد طرحوا العديد من النظريات لتفسير التغيرات النوعية الملحوظة في النطاق الاجتماعي وتعقد التكوينات السياسية البشرية، لكن أغلبها تبنى صيغة النموذج الخطي الصاعد. وشكك المؤلفان المرموقان في التصور السائد عن أن جميع محاولات العيش المشترك قبل اكتشاف الزراعة صغيرة وبسيطة، وتساءلا؛ بطرح أمثلة متفاوتة من مجتمعات مختلفة، عن المبرر لربط التحضر بمسار تصاعدي محتم.

وقد وجد الكتاب ناقدين كثراً، لكن أقوى التحديات لهذه النظرة المستجدة للتاريخ أتت في سياق دراسة لافتة نشرتها مجلة «التقدم العلمي» الأميركية ** في عددها الأخير (يونيو/ حزيران 2022) لعدد من الباحثين الذين استنتجوا أن المجتمعات تتطور من بسيطة إلى معقدة بطريقة يمكن قياسها بموضوعية، وأنهم في إطار تتبعهم التغيرات العالمية في المجتمع البشري على مدى العشرة آلاف سنة الماضية خلصوا إلى أن الحرب - لا الزراعة وحدها منفردة - تسببت في تحقيق نقلات نوعية من التعقيد الاجتماعي.

هؤلاء الباحثون هم أعضاء فريق عالمي كبير أمضى أكثر من عقد من الزمان في جمع البيانات حول التغييرات في البنى المجتمعية حول العالم، وبنى قاعدة معلومات تغطي العشرة آلاف عام الماضية (أو عصر الهولوسين وفق المصطلح المختص) بالاستفادة من البحوث العلمية في مجالات متعددة؛ من علم الآثار وعلم الاجتماع، إلى الدراسات الدينية والتاريخ الاقتصادي. واستقصد الفريق؛ على ما يقول البروفسور بيتر تورشين - أحد القائمين على «مركز علوم التعقيد» - توسيع نطاق جمع المعلومات إلى أقصى حد ممكن عبر الحقب والجغرافيات، وبأكبر كمّ من التباين، كي يمكن للباحثين الوصول إلى استنتاجات وتعميمات تنطبق على النوع البشري عموماً وعبر المجتمعات. وقام الباحثون في المركز تالياً ببناء نموذج افتراضي ديناميكي عام على الكومبيوتر يعتمد على الإطار النظري للتطور الثقافي العالمي - مع نماذج رياضية مناسبة واختبارات إحصائية لتحليل البيانات -، ويستخدم قاعدة المعلومات المجمعة لاختبار الفرضيات بشأن العوامل الأكثر ارتباطاً بازدياد مستويات التعقيد الحضاري (من بين 17 تقترحها النظريات الرئيسية في علم الأنثروبولوجيا، ومنها الاقتصادات المزدهرة، والانتشار واسع النطاق للكتابة والقراءة بين المواطنين... وغيرها)، وذلك عبر تحليل إحصائي هائل لعدد عينات هائل من المجتمعات التاريخية المتنوعة، مما يطيح كلياً مشكلات التجانس الداخلي وصغر حجم العينة التي لا شك في أنها أعاقت الجهود السابقة تجاه تحليل تطور التعقيد الاجتماعي والسياسي.

ومن المعروف أن هنالك توافقاً شبه شامل بين المختصين على أن تطور الزراعة كان شرطاً لكل نقلة نوعية في التعقيد الاجتماعي، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها سمحت بتوطن المجموعات البشرية ووفرت لهم فوائض غذائية قابلة للتخزين والنقل، ومكنت تراكم الثروات المادية، وتضخم أعداد السكان، وتقسيم العمل إلى وحدات مختصة بشكل متزايد؛ هذا بعدما قدمت لهم منصة لتفرغ بعض الأفراد للبحث فيما سوى هم البقاء اليومي. وهو ما فتح المجال تالياً لظهور الحكام والنخب، كما البيروقراطيين المتفرغين، والضباط، والجنود؛ الأمر الذي أدى إلى المركزية السياسية، والتقسيم الطبقي الاجتماعي، والصراع العنيف على الموارد بشكل متزايد. وقد ظهر ذلك جلياً أيضاً وفق مخرجات الدراسة.

أما النقلات اللاحقة التي زادت من مستويات التعقيد؛ فتنقسم الآراء الكلاسيكية بشأنها بين مدرستين أساسيتين: إحداهما تذهب إلى أنها كانت نتيجة التعاون الاضطراري نظراً إلى الحاجة إلى تطوير البنية التحتية لنقل المحاصيل والتعامل مع مخاطر فشلها في بعض المناطق. فيما الأخرى تميل إلى أنها نتيجة صراعات طبقية داخلية للمجتمع أو حروب خارجية مع المجتمعات المجاورة. لكن الدراسة كانت حاسمة هنا لمصلحة جزء محدد من هذه العوامل المحفزة على ظهور مستويات أعلى من التعقيد: إنها الحروب الخارجية التي تدفع إلى اختراع أو اعتماد تقنيات عسكرية أكثر تقدماً مما يمتلكه الأعداء (مثلاً الأسلحة الحديدية وسلاح الفرسان في الألفية الأولى قبل الميلاد). وتزعم الدراسة توافر دور سببي قوي عابر للجغرافيات يلعبه مزيج من زيادة الإنتاجية الزراعية وتطور تقنيات الحرب في تحقق قفزات التعقيد الاجتماعي.

وبحسب الدراسة دائماً؛ فإن اعتماد تقنيات عسكرية جديدة غالباً ما سبق تغييراً تدريجياً في الحجم الجغرافي للمجتمعات بمقدار 300 إلى 400 عام. فعلى سبيل المثال، ظهرت حرب العربات وانتشرت في أوراسيا وأفريقيا منذ نحو 3700 عام. وخلال بضعة قرون فقط من ذلك، تكونت مستوطنات بشرية أكبر بكثير من أي مجتمعات شوهدت من قبل؛ بما في ذلك مثلاً المملكة المصرية الجديدة التي كانت مساحتها تزيد على مليون كيلومتر مربع.

وبالطبع؛ فإن فريق الباحثين وراء الدراسة لا يتوقع - بحسب تصريحات أفراد منه - قبولاً شاملاً لهذه الاستنتاجات، لكن الطرح قوي إلى درجة لا يمكن معها إهماله بسهولة، ويدعو إلى التأمل فيما بعد المألوف والمتوقع، وإلى التحرر العلمي من أسر السرديات القائمة ومحدودية الاختبارات التجريبية السابقة المفتقرة إلى البيانات الأوسع نطاقاً، مع سلبيات عدم وجود إطار مفاهيمي عام تخدمه نماذج رياضية مناسبة واختبارات إحصائية لتحليل هذه البيانات إن تم جمعها.

ويخشى بعض المفكرين من أن تتحول مثل هذه الدراسات المتفذلكة إلى منهجية لاختزال التاريخ في سلسلة من المعادلات المبسطة دون مساءلة الافتراضات الأساسية حول مفهوم التعقيد الحضاري بحد ذاته وطرق قياسه (مثلاً التسلسل الهرمي العسكري للجيش، التسلسل الهرمي الإداري للدولة، التسلسل الهرمي للمستوطنات المسكونة... وغيرها) والتي لا تزال غير دقيقة، ولا متفقاً عليها، وقد لا تتوفر بشأنها نصوص مكتوبة كافية، مما يستدعي كثيراً من الاجتهادات.

ومع ذلك كله؛ وبغض النظر عن الجدل بشأن مسألة التعقيد الحضاري بحد ذاتها، فإن المقاربة التي قدمها فريق الباحثين من المركز النمساوي لمسألة نظرية شديدة الأهمية، أتت محملة بوعود كثيرة حول تمكين البشر من فهم أشمل وأعمق وأوسع للظواهر في مختلف ساحات العلوم النظرية، وعلامة على ثورة مفهومية تامة آتية، ستعبث بأسس نظرتنا إلى أحوال العالم اليوم، وقد تذروها مع الرياح.

* «The Dawn of Everything: A New History of Humanity»

by David Graeber and David Wengrow، Penguin، 2022.

**مجلة «التقدم العلمي (Science Advances)»؛ وهي دورية مختصة تصدرها «الجمعية الأميركية لتقدم العلوم»، وقد نشرت الدراسة، موضوع هذا المقال، تحت عنوان: «فك التشابك بين الدوافع التطورية للتعقيد الاجتماعي: اختبار شامل للفرضيات» في المجلد 8 - العدد 25 - لشهر يونيو 2022.

 



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>