التواصل الذي يقتل

17-11-2018 02:27 PM - عدد القراءات : 256
كتب حسن الوزاني العرب -لندن
إذا كانت تكنولوجيا المعلومات الجديدة تمنح إمكانيات مذهلة على مستوى توفير المعلومات وتيسير الوصول إليها، فإن إيقاع تطور المعرفة يبدو مختلفا.
 التواصل الذي يقتل

قد لا يختلف أحد حول الآثار الكبرى التي تخلفها وراءها التطورات اليومية التي يشهدها الكون على مستوى المعلومات ومعها التكنولوجيا الجديدة المتعلقة بها. فيضان من المعلومات التي تصل في كل ثانية إلى الجميع، مليارات أجهزة الهواتف المحمولة التي لم تعد تحمل حدودا بين الصورة والصوت والنص المكتوب.

وإذا كان كل ذلك يشكل الطريق الأفضل نحو الوصول إلى دمقرطة المعرفة وتفعيل حق الوصول إلى المعلومة من طرف الجميع، فإن الصورة ليست بنفس الكمال. إذ أجد من المفارقة، على سبيل المثال، أنه في اللحظة التي تتعدد فيها وسائل التواصل، من الشبكات الاجتماعية إلى البلاغات وغيرها، صار التواصل الحقيقي يتقلص يوما بعد يوم، ولا يبدو غريبا، مع هذا الوضع، أن تتحول جلسات الناس، سواء في البيوت، أو في قاعات الاجتماعات، حيث تُتخذ القرارات الكبرى، أو في المسارح ودور السينما، أو في غيرها من الفضاءات العمومية، إلى الفرصة الأفضل للانزواء مع كائن أليف اسمه الهاتف المحمول.

وامتدادا لذلك، صارت واجهات الفيسبوك الفضاءَ الأفضل حيث يلتقي الجميع؛ أسوياء كانوا أو معتوهين، كتابا مهووسين باحتساب اللايكات أو قراء لا يقرأون شيئا، مكتفين باحتراف النقر، زعماء سياسيين يتدربون على التكنولوجيا الجديدة، سعيا إلى ربح قاعدة جديدة قد لا تخذلهم في المحطات القادمة.

وإذا كانت تكنولوجيا المعلومات الجديدة تمنح إمكانيات مذهلة على مستوى توفير المعلومات وتيسير الوصول إليها، فإن إيقاع تطور المعرفة يبدو مختلفا. وقد يبدو مفارقا أن يكون فيضان المعلومات وتعدد مصادرها وسهولة النشر والتداول وراء تراجع قيمة إنتاج الأفكار والمعرفة العلمية.

لنتأمل حالة الباحث الذي يجد كل المعطيات أمامه، والذي يضع جانبًا ذكاءَه وحدسه وقدرته على الاكتشاف والابتكار، مدفوعا في ذلك بإغراء الأفكار الجاهزة، التي لا تحتاج إلا إلى البعض من التغليف والتحوير والتركيب لتخرج في صيغة مغايرة، بقليل من الجهد، والتي بدل أن تُقدم الجديد، لا تنفع إلا في ترقية أصحابها.

لنتأمل عدد الاستشهادات التي تُثقل كثيرا الدراسات العلمية والثقافية. وإذا كان ذلك مطلوبا، احتراما لجهود الغير وإذا كان عدد الاستشهادات يمثل مؤشرا على أثر دراسة ما، غير أن الأمر يحمل أيضا صورة عن بعض الكسل المعرفي الذي يجتاح كثيرا من الأعمال الفكرية وقدرَتها على الإبداع.

لنتأمل أيضا عددا من الأعمال الفكرية التي تخلو من الإشارة إلى أعمال الغير أو تسكت عنها، كما لو أنها تؤسس للمعرفة من جديد. والحال أنها تكرس نزعة الصمت عن جهود الآخرين، متناسية أن سرقة فكرة صغيرة هي جريمة لا تقل عن سرقة أموال عباد الله، أو متماهية مع الرغبة في قتل آباء وهميين، في الوقت الذي تعجز فيه عن إحياء فكرة صغيرة قد تضيء قرية صغيرة، اسمها العالم.



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>