النفاق الإلكتروني وتداعياته

27-09-2018 03:26 AM - عدد القراءات : 591
كتب العرب-عبدالستار الخديمي
كل هذا التزييف والتجميل اللذين نمارسهما بوعي تام وبقناعة راسخة ليسا إلا تعبيرا عن رفض غير معلن لما نحن عليه خلقيا وأخلاقيا وسلوكيا وماديا.
 النفاق الإلكتروني وتداعياته

في كل المناسبات التي نتصفح فيها حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، نصاب بتخمة جراء ما يُنشر في شتى المجالات التي تتصل بحياتنا اليومية؛ أخبار رياضية وسياسية وثقافية واستقصائية وحكم ومواعظ.. كما يُحدد ذلك المثل التونسي القائل “على كلّ لون يا كريمة” (في إشارة إلى شدّة التنوّع)، أو القائل “ذراعك يا علاّف” (للدلالة على التسابق والتنافس المحموم).

بمقاييس معرفية واجتماعية وحضارية بالخصوص تبدو الكثرة والتنوّع والتنافس أمورا إيجابية، تنمّ عن تفاعل مثمر وإيجابي يساهم في تبادل الأخبار والمعارف كما يساهم في التلاقح الحضاري والتواصل البشري، ولا يتمّ ذلك الهدف النبيل بالشكل المطلوب لاعتبارات كثيرة لعل أهمها؛ أنّ الصورة المشرقة التي تظهر عليها المنشورات الفيسبوكية ليست إلا واجهة لمّاعة لا روح فيها ولا حياة، رغم أننا لا يمكن أن ننفي صدقية بعض الناس في ما ينشرون، وجديتهم للإفادة، فقد نجد الكل تقريبا متدينين في أبهى حلل الإيمان، أو متفتحين على العصر يؤمنون بالمساواة بين الجنسين ويدافعون عن الأبعاد الإنسانية العميقة وعن الديمقراطية وعن العدل الاجتماعي وعن الحرية وعن المرأة والثقافة والتعليم والاقتصاد…كما نجد البعض الآخر يتحلى بكل القيم والأخلاق الإنسانية النبيلة في تعليقاته وتعاملاته الظاهرة مع أصدقائه الحقيقيين والافتراضيين.

تجتمع على المواقع المتعددة لوسائل التواصل الاجتماعي جميع أصناف البشر وشرائحهم من مختلف الأعمار والملل والديانات، ما يعني أنها واجهة اجتماعية بامتياز للتنوّع والثراء الاجتماعيين، ما يعني أيضا أنها منصات للتآلف والتحابب وتقريب وجهات النظر والخوض في المسائل ذات الاهتمام المشترك في جميع المجالات الحياتية ذات الأبعاد النفسية والذهنية وكذلك المادية.

أما الواقع فهو أمر مختلف تماما، فعمليات التجميل شملت الصور التي تنشر وحتى وإن كانت طبيعية فهي تخضع تماما لفعل انتقائي بأهداف وغايات معينة تقوم أساسا على تجميل الملامح وإخفاء ما أمكن إخفاؤه مما يعتقد أصحابها أنه بشاعة، والبعض الآخر لا يظهر صوره مطلقا تخفيا أو هروبا أو لعدم القدرة على الانكشاف والمواجهة.

لغة المجاملات منتشرة بدرجة أفرغتها من كل محتوياتها القيمية، فأضحت لغة بلا مدلولات، تحيل على فراغ لا معنى له. والأغرب من كل ذلك أن المجاملة أصبحت في شكل “إيموجي”، صورة ثابتة أو متحركة تلصق للتعبير عن رأي أو موقف وكأننا نترك للمتلقي أن يختار التأويل الذي يناسبه. فالوجه الضاحك مثلا لا ندري هل يحيل على الفرح والابتهاج أو على التهكم والسخرية؟ وقس على ذلك الكم الهائل من التعليقات. الإشكال المطروح اجتماعيا هو؛ إلى أي مدى تمثل مواقع ومنصات الوسائط الإعلامية الاجتماعية كفيسبوك وتويتر الصورة الحقيقية للمجتمع؟ وإلى أي مدى تطرح القضايا الأساسية الحارقة في جميع المجالات التي تمس حياة المواطنين على اختلاف طبقاتهم ومواقعهم؟

كل هذا التزييف والتجميل اللذين نمارسهما بوعي تام وبقناعة راسخة ليسا إلا تعبيرا عن رفض غير معلن لما نحن عليه خلقيا وأخلاقيا وسلوكيا وماديا، يمكن تسمية هذا الفعل بـ”النفاق الإلكتروني” الذي نعتمده لـ”السموّ” بذواتنا وكأننا نخجل مما نحن عليه فعلا، ولعل دوافعنا ليست ذات قيمة فعلية بما أنها لا تتعدى جلب الانتباه، إنها نوع من النرجسية المرضية.

الجانب الآخر من التزييف يهم المنشورات والصور ومقاطع الفيديو في ذاتها، فكم تعاطفنا مع أناس لا نعرفهم إلا افتراضيا في “محنهم” المتأتية عن المرض مثلا أو الفقر أو ضحايا الاغتصاب أو الحروب أو العنصرية.. ويتضح في ما بعد أن أخبار هؤلاء مزيفة وليست حقيقية من حيث أزمنة وأمكنة وقوعها وحيثياتها، فحادثة اغتصاب تقع في المغرب وتنشر على أساس أنها وقعت في تونس، وصور لدمار ناتج عن حروب تنشر على أساس أنها آنية ولكنها وقعت في مكان آخر ومنذ سنوات خلت.

من هنا يتضح الدور السيء الذي تقوم به وسائط الإعلام الاجتماعي -بوعي أو من دونه- للسيطرة على الرأي العام المحلي أو الجهوي أو الدولي والعالمي وتوجيهه إلى زوايا رؤية معينة لغايات سياسوية أو اقتصادية.

في خضمّ كل هذا تطالعنا منشورات تخرج عن سياق القيم الاجتماعية وهذا طبعا لا يدخل في إطار عملية التثاقف البناءة، وكما يقال “الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه”، ولكن مع ذلك نجد أنفسنا نتصفح ما لا نريد، وتمرّ أمامنا مشاهد نغضّ الطرف عن رؤيتها.

الكبار بمقدورهم أن يميزوا بين الغثّ والسمين وأن يمحّصوا منتج التواصل الاجتماعي الغزير، وأن يستفيدوا من الجيد ويتركوا السيء، ولكن صغار السن والمراهقين لا يتمتعون بهذه الحصانة، ومن السهل جدا انزلاقهم في متاهات قد تكون ارتداداتها وخيمة، وعليه فإن الدور الرقابي الأسري يجب أن يتضاعف مرات عديدة لتجذير المرافقة الإيجابية وترشيد استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وإكساب منظورينا القدرة على التفكيك والإفادة المثمرة من هذا الكم الهائل من الأخبار والمعلومات


© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>