البدو الرقميون يغزون نظام التوظيف العالمي

16-05-2018 10:51 AM - عدد القراءات : 409
كتب العرب -لندن
وزارة الداخلية في إستونيا تعلن عن تطويرها لنظام تأشيرة إلكترونية جديدة يطلق عليها "البدو الرقميون" لضمان عمل حر ومتحرك.

أعلنت وزارة الداخلية في إستونيا، الآونة الأخيرة، عن تطويرها لنظام تأشيرة إلكترونية جديدة يطلق عليها “البدو الرقميون”، وذلك بالتعاون مع منصة التوظيف الدولية “جوباتيكال”، التي تساعد الموظفين الفنيين على تقلد وظائف في الخارج وأيضا تساعد على الربط بين الموظفين الرقميين وأصحاب العمل في جميع أنحاء العالم.

ويعرف الخبراء البدو أو الرحل الرقميين بالعمال الذين ملوا حدود العمل التقليدية المقيدة بالمكان وتوقيت الحضور والانصراف، ويفضلون العمل الحرّ المتنقل، دائم الحركة، والقائم على الإبداع والابتكار.

وقالت المؤسسة الشريكة والمديرة التنفيذية للمنصة إنها تواصلت مع الحكومة الإستونية بعد أن رأوا في المنصة أن العائق الأكبر الذي يحول دون تقلد الموظفين الفنيين وظائف في الخارج هو التأشيرة المناسبة. وتسمح التأشيرة الجديدة لأصحابها بالإقامة قانونيا في إستونيا لعامٍ كامل للذين يباشرون وظائفهم من منازلهم ويعتمدون بالدرجة الأولى على الاتصال بشبكة الإنترنت إقامة قانونية في إستونيا، كما تتيح لهم تأشيرة شنغن يمكنهم بها زيارة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لمدة تصل إلى 90 يوما.

 

يشهد العالم منذ تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيسا على الولايات المتحدة الأميركية في يناير عام 2017 صعودا للتيارات اليمينية المحافظة التي تحمل أفكارا شعبوية منغلقة تناقض المبادئ الغربية التي تدعو للانفتاح على الأخر وتناهض العولمة وما أحدثته من تغييرات جعلت العالم قرية صغيرة. وبينما يرى ترامب أن الوظائف الأميركية هي للعمال الأميركيين بشكل رئيسي تنفيذا لشعاره الانتخابي أميركا أولا، تؤسس إستونيا لنظام عمل جديد ومختلف ومتطور من خلال سعيها للتوظيف الرقمي ويتوقع الخبراء أن يغزو هذا النظام الذي لا يتعرف بالحدود القومية وظروف العمل التقليدية العالم مستقبلا.

وبما أن مواطني دول الاتحاد الأوروبي يستطيعون بالفعل التحرك والعمل بحرية، فإن التأشيرة الجديدة تستهدف مواطني الدول الأبعد؛ مثل الولايات المتحدة وآسيا وأميركا اللاتينية، وربما بريطانيا بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع وضع الفيزا حيز التنفيذ في يناير 2019.

وستجعل تأشيرة عمل البدو الرقميين التي أطلقتها حكومة إستونيا وكذلك التحولات الرقمية التي تتطلع إليها الحكومة من مدينة تالين أكثر جاذبية للموظفين الرقميين المتحررين من العمل داخل موقع جغرافي معين.

وشرح كيلو فانتسي مستشار الهجرة لدى وزارة الداخلية في إستونيا التغيرات الكبيرة التي يشهدها سوق العمل ببلاده وهو ما استدعى تكوين شركات ناشئة ناجحة متخصصة في تعقب المدن المناسبة للعمالة غير المرتبطة بمكان.

وقال فانتسي “كان لا بد من تنظيم عملهم في إستونيا عبر التأشيرة الجديدة التي ستسمح لهم بالإقامة القانونية والعمل من منازلهم دون الارتباط بالشكل التقليدي للوظائف الذي يعتمد على التوظيف داخل مؤسسات أو شركات خاصة”.

ويمثل هذا النوع من التأشيرات تغيرا لافتا في الطريقة التي تدعم بها الحكومات القوى العاملة المتحركة في هذا العصر. لكن الكاتب البريطاني بيتر بيش تساءل في مقاله على صحيفة الغارديان البريطانية ما إذا كان العمل على طريقة البدو الرقميين سيغزو مجال التوظيف في العالم مستقبلا.

مستقبل التوظيف

زارت نيكول تان من سنغافورة (29 عاما)، وهي موظفة رقمية، أماكن كثيرة في العام الماضي مثل جامايكا وميامي وبورتلاند وسان فرانسيسكو ولوس أنجلس وبودابست وسلوفينيا وبرلين ولوكسمبورغ وإيسلندا ورومانيا وبولندا وباريس وأمستردام وتايلاند.

ووصفت تان التأشيرة التي أقرت الحكومة في إستونيا “هذا شيء رائع. لقد حان الوقت ليكون لدينا مثل هذه الإمكانية”.

ومارست تان حياتها بشكل طبيعي جدا في كل الأماكن التي زارتها وقضت أوقات جيدة وممتعة. تقول تان “في العام الماضي كنت أنتقل من مكان لآخر كل أسبوعين.. كنت أقول لنفسي دائما لقد حان وقت الرحيل، كان عليّ السفر إلى بعض الدول والمدن”.

وتعتبر تان واحدة من الأعداد المتزايدة للموظفين الرقميين المتحررين من العمل داخل حدود مجال جغرافي معين أو في ما يُعرف باسم “البدو الرقميون”. لكن كان عليها السفر متخفية، لأن معظم الحكومات لا تعترف بالطريقة التي تعمل بها.حيث كل ما تستطيع فعله هي والآلاف من “البدو الرقميين” السفر بتأشيرة سياحية أو العمل لدى شركة محلية، إلا أنه – على الرغم من أن الحكومات تغض الطرف غالبا عن التجاوزات غير القانونية في ما يخص السفر والهجرة – فقد كانت صارمة مع هؤلاء واعتبرت أنه غير قانوني بالنسبة لهم أن يعملوا عن بُعد.

لكن، وفي بعض المدن، لن يكون هذا هو الحال بعد الآن. يشرح بيتر بيش ذلك خلاله لقائه بتان في شركة “ليفت 99” بمدينة تالين، وهي جزء من “مدينة تيليسكيفي للإبداع” أو “تيليسكيفي كرييشن سيتي”.

 ويشير بيش أنه “بات يحوي هذا المجمع حاليا 250 شركة وثمانية مطاعم ورواقا لمجموعة من المتاجر كما لم تغفل عن مرافق الترفيه لتجد فيها طاولات “تنس الطاولة” والعديد من الفضاءات الترفيهية الأخرى.

وتمتاز إستونيا بوجود أعلى نسبة للشركات الإلكترونية الناشئة مقارنة مع عدد السكان على مستوى العالم وهي البلد الأصلي لـ”سكايب”.

بيتر بيش: الأفكار تتطور بسلاسة في إستونيا، وتحولها الشركات الناشئة إلى أرض الواقع ويتم وضعها بذكاء لجذب الموظفين الرقميين المتجولين
بيتر بيش: الأفكار تتطور بسلاسة في إستونيا، وتحولها الشركات الناشئة إلى أرض الواقع ويتم وضعها بذكاء لجذب الموظفين الرقميين المتجولين

ورغم برودة أجواءها فهي بلد متطور ويمتلك حكومة إلكترونية كاملة تسهل حياة المواطنين بصورة خيالية، حيث يتم تعليم البرمجة الإلكترونية للأطفال من عمر السبع سنوات.

كما يمكن للمواطنين التصويت في الانتخابات، وتأمين الرهون العقارية وفتح حسابات بنكية عن طريق ثاني أسرع خدمة إنترنت في العالم. ويمكن فتح نشاط تجاري خلال 10 دقائق دون مغادرة طاولتك في المقهى.

 ويصف بيش هذا التطور الرقمي السريع بإستونيا قائلا “لقد أثبت شباب جمهورية الاتحاد السوفييتي السابق، أن تحقيق كل شيء بات ممكنا”. فيما يقول نوريس كوبل، الرئيس التنفيذي لشركة “مونيس”، وهو تطبيق مصرفي “يبدو الأمر وكأن الشركات الناشئة قد استحوذت على المدينة”.

وقد تم تعليق هاشتاغ “إستونيان مافيا” على جدران شركة “ليفت 99”، والذي يحوي أسماء لشركات بلغ حجم استثماراتها 5 ملايين دولار؛ مثل شركة “بايب درايف” و“ترانسفير وايز” و“فاندر بيم” و“تاكسيفاي”.

ودافعت المؤسسة الشريكة والمديرة التنفيذية لمنصة التوظيف الدولية، كارولي هيندريكس عن هذا المشروع الرقمي الذي تشترك به مع حكومة إستونيا لافتة أنها ناقشت إمكانية إطلاق هذه الفيزا الرقمية الجديدة مع رئيسة إستونيا، كيرستي كالغولد، منذ أكثر من عام، وذلك بهدف خلق حلم جرئ بمستقبل دون حدود قومية.

وقالت في حديث لها العام الماضي “الحدود الدولية ليست انعكاسا للسياسة أو للسياسيين. إنما هي انعكاس للحدود التي نزرعها في عقولنا إنها الحدود التي تمنعنا من متابعة أحلامنا. لقد تغير العالم، ويجب علينا اللحاق بهذا التغيير”.

وأضافت هيندريكس “لكي أكون صادقة، فإن القوى العاملة في العالم من حولنا متحركة جدا لكن قواعد التأشيرات وتصاريح العمل تستند إلى ظروف العمل التقليدية، حيث يجب عليك أن تعيش وتعمل في نفس المكان، لكن هذه القواعد لم تواكب التطورات في مجال العمل. لقد حان الوقت للتغيير”.

 وقد لاقت فكرة تجميع أشخاص رحل يعملون عن بعد إقبالا كبيرا، وهو ما أدى إلى ظهور مجموعة من البرامج المماثلة مثل “واي فاي ترايب” و“وي روم” و“كو ورك ذا وورلد”، وجميعها تتبع عمليات تدقيق صارمة (تتضمن طلبات عمل مطولة ومقابلات عديدة) لتعزيز الشعور بالخصوصية والمساعدة على التحرر من مكان العمل المكتبي التقليدي.

وتعتبر تالين من أكثر المدن التي اشتهرت بالتجارة المتجولة.وحتى خلال الـ 85 عاما منذ أن وُضعت إستونيا على الخارطة من قبل أحد علماء الجغرافيا العرب، استضافت المدينة تجارا من كل حدب وصوب، بسبب موقعها الساحلي الذي يربط أوروبا وروسيا.

ومنذ القرن الثاني عشر، وقعت تالين تحت احتلال الجيوش السويدية والألمانية. واحتلتها روسيا ثلاث مرات في ما مجموعه 250 عاما. لذلك يمكن القول بأنها مدينة تؤمن بنظرية “الحدود المفتوحة”.

وقد احتل الاتحاد السوفييتي تالين على مدى سنوات عدة في القرن العشرين. لذا، وبعد استقلالها التام عام 1991، سلكت إستونيا طريقها للخروج من هذا الركود عن طريق التحول نحو الغرب، وكذلك عن طريق الاستثمار بشكل كبير في العالم الرقمي وآخر التطورات في مجال التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة.

ويتيح نظام الإقامة الإلكترونية “إي ريزيدنسي” الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة، والذي تم إطلاقه في عام 2014، للمواطنين في كل مكان الوصول إلى منصاتها على الإنترنت دون أن يضطروا بالفعل إلى العيش في البلاد.

وتخول هذه البطاقة صاحبها بفتح شركة بسهولة على الإنترنت وفتح حساب بنكي له من دون اضطراره للتحول إلى ذلك البلد مباشرة ويمكنه بهذه البطاقة إدارة شركته بالكامل وتوزيع الأرباح ودفع الضرائب وتوقيع الوثائق رقمياً من أي مكان بالعالم، تماماً مثل المواطنين الإستونيين.

تطور مذهل بإستونيا

يشير الكاتب البريطاني أنه هناك إجماع على أن “تالين تسير على الطريق الصحيح”.. مستشهدا بشباب المدينة المتحمس بشكل كبير لهذا المشهد التقني المذهل ببلدهم، حيث يعتبرونه أفضل فرصة للازدهار بإستونيا.

لافتا أن القوى التي تحرك البلاد وتقودها هي من الشباب النشطين والمليئين بالأفكار الجديدة؛ إذ يبلغ رئيس وزراء إستونيا 39 عاما، ورئيسة إستونيا 48 عاما.

البدو الرقميون يمارسون عملهم أينما أرادوا بفضل وسائل التكنولوجيا الحديثة
البدو الرقميون يمارسون عملهم أينما أرادوا بفضل وسائل التكنولوجيا الحديثة

ويقول كافين من شباب البلاد “عاشت إستونيا 20 عاما من الاستقلال قبل الحرب العالمية الثانية والاحتلال السوفييتي، ومن ثم وبعدما حققت الاستقلال التام لأراضيها في العام 1991، عملت هذه الدولة على النهوض بنفسها من خلال استخدام مواردها المتاحة والتي اعتبرتها بمثابة شريان الحياة، ألا هي تطوير البنية التحتية الرقمية”.

وبعد استقلالها عن الاحتلال السوفييتي، أعادت تالين بناء نفسها كمدينة رقمية متحررة من الحدود بفضل اعتمادها أساسا على التكنولوجيا، تتحرك بسرعة ومرونة تفتقر إليها الحكومات البيروقراطية القديمة.

يقول بيش “هي مكان تتطور فيه الأفكار بسلاسة، وتحولها الشركات الناشئة إلى أرض الواقع، ويتم وضعها بذكاء لجذب الموظفين الرقميين المتجولين الذين يُتوقع أن يصل عددهم إلى مليار بحلول عام 2035”. ويستدرك بيش قائلا “لكن العالم التقني، وحكومات الدول ليسوا دائما في حالة وفاق”. حيث تعمل الشركات الناشئة دائما معتمدة على الجرأة  “إذا كنت تستطيع أن تحلم بشيء ما، يمكنك  تحقيق ذلك”.

 من جهة ثانية فإن الحكومة الإستونية،ورغم كل أوجه التقدم التي حققتها، لا تزال تعاني من أسوأ حالة من عدم المساواة في الأجور في أوروبا.

وكنتيجة لذلك وجدت الحكومة الإستونية أنه من الضروري تطوير هذه الفيزا الرقمية الجديدة. ولكن الطريق لا يزال طويلا أمام تالين حتى تلحق بركب مدن عالمية أخرى مثل ميدلين أو شيانغ ماي، حيث الجو معتدل طوال العام.

أما في العاصمة الإستونية، فقد تم قياس درجة حرارة اليوم الذي أُعلنت فيه التأشيرة الجديدة، لتسجل 11 درجة مئوية.

ويبقى التفاؤل في هذه المدينة يشكل عاملا مهما. يقول كول وهو شاب من تالين “قد تكون مصابيح الشوارع صدئة، وقد لا تكون الطرق ممهدة بشكل صحيح، ولكن كل ما يخطط الإستونيون للقيام به هو الجري واللحاق بالركب. وسيستمرون في العمل إلى أن ينجحوا”.



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>