العمليات العسكرية غير المتكافئة في ميزان القانون والمعايير الإنسانية

18-01-2018 09:35 AM - عدد القراءات : 3414
كتب جان – باتيست جانجين فيلمير
تخوض فرنسا (شأن دول أخرى أوروبية وغيرها) حرباً خارجية غير معلنة على جبهتين: جبهة الساحل الأفريقي (عملية «بركان») وجبهة المشرق (عملية «شمال»). لكن هل يصح الكلام عن حرب على جبهة الداخل، ومصدر الانزلاق إلى تعريف عمليات حفظ الأمن في الداخل بالحرب هو عبارة «الحرب على الإرهاب»؟

وانتُقدت العبارة حين استعملها جورج دبليو بوش. وسرعان ما درجت في التداول على رغم نشازها. ويندّد العسكريون بها مرةً بعد أخرى، وينبّهون إلى أن الإرهاب ليس كياناً، بل نهج ووسيلة. والحرب لا تقارِع نهجاً بل خصماً، وهذا الخصم هو «جهاديّو» شمال مالي أو «داعش». والقول إننا نخوض حرباً على الإرهاب يخالف ميزان مقالات النزاع العسكري وسويّتها، ويوحي ربما بأن فرنسا (أو غيرها) تخوض حرباً على أراضيها الوطنية. وحين تتدخل القوات المسلحة على الأراضي الوطنية، ليس المرجع القانوني في الأمر قانون النزاعات المسلحة. ومصطلح الحرب صار جزءاً من التواصل السياسي ولغته. والكلام الشائع يستعمل تارة لفظة «عملية» وتارة أخرى «حرب». والأولى ابتكرها القرن التاسع عشر واستعارها من المصطلح الطبّي، وهي تطمئن المواطنين. فالعملية فِعل إيجابي، ولا تخِلّ بمعايير الحرب العادلة، وتَعِد بإنجاز سريع... إلخ. أما الثانية فتشدّد على خطورة الحال وأمدها الطويل واحتمال الخسائر. وليست الحرب إجماعاً، فهي غائمة ومصطلحها جزء من المصطلح السياسي– الإعلامي. والقانون يفضل الكلام على «نزاع مسلح» أو «عسكري». وعبارة «الحرب على الإرهاب» ، على ما تقدّم القول، غير متماسكة. وعبارة «الانتصار في الحرب على الإرهاب» أقل تماسكاً من الأولى. فربح الحرب على الإرهاب، أو كسبها، لا يعني إلغاء التهديد الإرهابي، على رغم الميل السياسي إلى توسّل مصطلح متصلّب مثل «السحق» أو «الاستئصال» أو «القضاء». ويُعقَل توسّل مثل هذا المصطلح في إطار تحفيز الجنود والمواطنين، وفي سياق إظهار صلابة عزيمة الدولة. لكن القضاء على التهديد الإرهابي قضاءً تاماً، مستحيل. والعبارة تعني فعلاً: إبقاء خطر العملية الإرهابية دون مستوى مقبول سياسياً. وهذا المستوى ليس واحداً في كل المجتمعات، والحياة اليومية في إسرائيل ليست صنوها في سويسرا. وإحدى أبرز سمات النزاعات المسلحة التي تخوضها الدول الغربية، ضعفُ تكافؤ الأسلحة والمعدات على أنواعها. وليس معنى هذا أن الانتصار فيها يسير وفي متناول هذه الدول. والحرب في أفغانستان دليل على ما أقول. فضعفُ تكافؤ التسليح يعوّضه المحارب الأهلي (على خلاف محارب الدول النظامي) بوسائل وعوامل أخرى. فهو لا يملك طائرات «رافال»، لكنه على دراية تامة بأرض الميدان، وميدان الساحل شاسع، ويستعمل تكنولوجيات بسيطة، مثل العبوات المتفجرة اليدوية الصنع، ويزرعها على جوانب الطرق، فتشل حركة مركبات مدرّعة يبلغ ثمن الواحدة منها مئات أضعاف ثمن العبوات. وفي وسع السلاح البدائي هذا تقليص امتياز السلاح المتفوّق، وقد يلغيه. والإرادات غير متكافئة كذلك. فأعداؤنا لا يهابون الموت، بل يرمون بأنفسهم فيه طوعاً. وهذا أمر لا يُسعى في مكافأته، وعلى النقيض منه نبذل جهدنا في سبيل حماية جنودنا. ومن الأسلحة غير التقليدية التي تنوي القوات الفرنسية استخدامها في نزاع الساحل، طائرات من دون طيّار طراز «ريبير». وهي مناسِبة لقضاء جِدّي «مباح»، ومصدر تهديد أهلي غير نظامي وضعيف التسليح. وهذه الطائرات بطيئة وغير خفيّة، وإسقاطها غير عسير، ولذلك يقتصر استعمالها على نزاعات غير متكافئة، على خلاف طائرات الاشتباك من دون طيّار. وفي نيامي، لا تنافس الطائرات من دون طيّار «الميراج 2000»، بل هي مكمّلة لها. والسلاحان لا يتمتّعان بمواصفات واحدة ولا بالمعدّات ذاتها. ففي مستطاع «الميراج 2000» بلوغ مسرح العمليات على وجه السرعة، لكن عليها مغادرته سريعاً أيضاً، على خلاف «الريبير» البطيئة التي في وسعها التحليق من غير انقطاع في سماء الميدان. وغالباً ما يتلازم استعمال الطائرات من غير طيار مع «القتل (أو الاغتيال) المستهدف». وتوحي العبارة بانتهاك الفعل القوانين المرعية وبقتل مدنيين لا يشاركون في القتال مباشرة. وبعض الدول تحاول سنّ إطار قانوني يرعى هذا الصنف من الأعمال الحربية. ويشكك كُثُر في معياريّته القانونية. وعلى خلاف الأميركيين والإسرائيليين، لا يتبنّى البريطانيون الضربات بوساطة الطائرات من دون طيّار خارج مسرح النزاع المسلح. وفكرة القضاء على هدف معروف ومعين تبدو لي خطوة قانونية متقدّمة. وما ينبغي انتقاده والطعن عليه هو القضاء على من ليس مقصوداً أو مستهدفاً، وإصابة جماعة من غير تمييز- وهو ما تفعله عملية إرهابية في سوبرماركت، وما يفعله «بساط القنابل» على حلب. أمّا تعقّب قائد إرهابي معروف العادات والشركاء، وقتله في وقت مناسب، حين يكون وحده أو في أثناء انتقاله، فيدخل في باب التوقّي والتحوّط تعريفاً. وهذا نهج يرمي إلى تجنّب الأضرار الجانبية، وإن لم يُصِب غرضه على الدوام. والتنبيه إلى أن هذه العمليات تنتهك سيادة دول غير محاربة، هو مسألة مصطنعة عملياً. فالأجهزة الباكستانية هي أول الراغبين في تولّي الأميركيين القضاء على المستهدفين على أراضيها. وليس في مستطاع المسؤولين الباكستانيين غير التنديد علناً بالعمليات الأميركية لاحتواء تذمّر الشارع والأحزاب المحافظة والشعبوية. والتقليل من العمليات الأميركية مؤداه تكثير العمليات الباكستانية، والبرية منها خصوصاً، كما حصل عام 2009، وترتّبت عليها نتائج فادحة أصابت مدنيين. وعلى هذا، فاستعمال الطائرات المسلحة من دون طيّار يبقى أقل شراً من ترك استعمالها، ويُفضَّل على استعمال وسائل أخرى، وليس على «السلم». وبعض منتقدي استعمال هذا الصنف من السلاح (مثل صاحب «نظرية الدرون»، غريغوار شامايو، 2013، دار لا فابريك)، يجرّدون إدانتهم من العوامل الظرفية التي تلابس استعمال السلاح. فما هو البديل منه؟ وفي معظم الأوقات، لا تتمتع الطائرات التي يقودها طيارون بدقّة الطائرات من دون طيار ولا بتمييز أهدافها. وتحليقُها وقتاً طويلاً في سماء الميدان يتيح اختيار وقت إعمالها ومكانه، والتحكّم فيهما. وميزات هذا السلاح العملانية ليست أقل من ميزته الإنسانية، على خلاف التخمين الأول. وعودة الضالعين في العمليات الإرهابية إلى ميدان القتال يجعلهم مقاتلين، شأنهم شأن غيرهم من المقاتلين. وليس تعقّبهم ولا تابعيتهم فارقاً معتبراً. فالسؤال يتناول اشتراكهم المباشر في الأعمال العدائية، وفي هذه الحال ليس جواز السفر درعاً واقية. وثمة رابط بين الداخل والخارج. فالعمليات الإرهابية التي تنظم في الخارج تنفذ في الداخل، على الأراضي الوطنية. والقول أن فرنسا (أو غيرها) ليست في حال حرب لا يخالف القول أن أراضيها تتهدّدها أعمال عدائية. وهذا الأمر هو في قلب النزاعات اليوم: فالتمييز القاطع أصبح متعذراً بين ما هو شأن الأمن الداخلي وما هو شأن الدفاع الخارجي. وتثير هذه المنطقة الرمادية أسئلة. فالاتصال يسوغ تعقّب الإرهابيين في الخارج، أياً كانت تابعيتهم، ويبرّر استهدافهم، فرنسيين كانوا أم غير فرنسيين. ومنذ إبرام الملحق الإضافي الأول باتفاقيات جنيف، عام 1977، يجوز قانوناً مهاجمة مدنيين يشاركون مباشرة في أعمال عدوانية. ولا شك في أن إعمال سلاح الطائرات من دون طيّار لا يعني انتفاء المقاتل. لنأخذ على سبيل المثل مداراً من 4 طائرات «ريبير»: واحدة في الجو، وثانية في طريقها إلى الحلول محل الأولى، وثالثة في طريق العودة إلى قاعدتها، ورابعة على أهبة الإقلاع احتياطاً. فمثل هذا المدار يقتضي استنافر 160 شخصاً، بعضهم يتولى القيادة والتوجيه، وآخر يهتمّ بالتقاط الصور، وثالث يقوم بالتنسيق التكتيكي، إلى سلسلة القيادة والمستشارين القانونيين وعمّال الميكانيك... إلخ. لكن الحقيقة هي أن وظيفة هذا العامل تغيرت، ولم يَعد يضطلع بما كان يتوجّب عليه سابقاً. وخلو المركبة الطائرة من البشر لا يرتّب مشكلات أخلاقية فوق تلك التي تترتّب على المركبات المأهولة (بالبشر). فدرسدن وطوكيو وغيرنيكا وهيروشيما وناكازاكي مدن قصفتها طائرات قادها ربابنة من الإنس. ولم يكن القصف أكثر إنسانية. ومعايير الحكم في الأعمال العسكرية تغيرت لأسباب غير اشتراك البشر في قيادة المركبة أو السلاح. وسبق لبيار هاسنير أن لاحظ الفرق بين الجهادي الانتحاري الذي يرمي بنفسه إلى الموت ويحمل جسده كسلاح أخير، والقوات الغربية التي تحرص أشد الحرص على إجلاء الأجساد من ميدان المعركة. وهذه الملاحظة لا تخلو من الابتسار: فالطائرة من دون طيّار قلما تعمل وحدها، ويُنسَّق عملها غالباً مع قوات خاصة برية. وهذه القوات متخفية وتتعرض لأخطار عظيمة. وعلى خلاف «السي آي أيه» الأميركية، تدير فرنسا أجهزتها محلياً: من قاعدة باغرام في أفغانستان، ومن عاصمة مالي في الساحل. وهاجم المقاتلون الأفغان باغرام، وقد تُهاجَم نيامي (مالي). فطيّارو الطائرات من دون طيّار ليسوا في مأمن من الخطر، على خلاف قول شائع، وهم جزء من نظام مركب يقتضي إعماله رجالاً في مسرح العمليات. والجمع بين طائرات من دون طيّار وقوات خاصة، أو ما يسمى «القوّة المختصّة»، هو ردّ على إخفاق قوات كبيرة في عهد بوش، وعلى عمليات اجتياح أفغانستان والعراق. ومثال «البصمة الخفيفة» («لايت فوتبرينت»)، هو وليد المعالجة الاستراتيجية غير المباشرة، وعلى طرف نقيض من تقليد عسكري آخر يجسّده كلاوزفيتز ويدعو إلى المناطحة الرأسية في ميدان الحرب، والحروب النابوليونية عَلَم عليه. والخصم في الحروب غير المتكافئة يأخذ غالباً جانب الحِدّة وتفادي الاشتباك. وهذا شأننا (الدول الغربية) كذلك. وتغيّر الإطار الاستراتيجي على هذه الشاكلة، أدى إلى تعاظم التوسّل بالقوات الخاصة، المدربة والمتخفية، وبالطائرات من دون طيّار، سعياً في تحصيل أقصى تأثير بعددٍ قليل. * مدير معـــهد البحوث الاســتراتيجية في المدرسة الحربية ومنسّق «قاموس الحرب والسلم» (دار المطابع الجامعية الفرنسية، 2017)عن «ليبراسيون» الفرنسية، 2-3 /2017، إعداد منال نحاس


© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>