من يوقف نزيف المال والمعلومات في الشرق الأوسط؟

24-12-2017 05:32 AM - عدد القراءات : 7739
كتب د.عادل عبد الصادق*
على الرغم من تمكن الاجهزة الامنية المصرية في السنوات الاخيرة من القبض على متهمين في هيئة افراد وشركات لتمرير المكالمات الدولية ،إلا ان هذه هي المرة الاولي التي تحظى فيه عملية الكشف عن قضية مماثله ذلك الزخم والاهتمام والتعقيد،لكونها اكثر اتساعا سواء في عدد المتهمين، او من حيث تعدد نشاطها، او لدرجة ارتباطها الخارجي لخدمة مصالح لدولة اجنبية، وحملها كذلك لتأثيرا مزدوجا جمع بين التأثير الاقتصادي والأمني في آن واحد.
من يوقف نزيف المال والمعلومات في الشرق الأوسط؟

وعكس اتهام تركيا بالتخابر ضد مصر تنامي  الدور لفاعلين جدد في التجسس الاقليمي الى جانب قطر وإيران ناهيك عن الدور التقليدي للموساد الاسرائيلي.والتصاعد في الارتباط بين التجسس وتكنولوجيا الاتصالات،و في ظل بيئة امنية اقليمية غلب عليها ضعف دور الدولة ونمو نشاط الحركات الارهابية المسلحة ،وهو ما وفر بيئة حاضنة لنمو حركة الانشطة السرية سواء من قبل  اجهزة استخبارات دول اقليمية لديها اطماع وأجندات خارجية او سواء عبر اجهزة استخبارات لدول كبري . 

وذلك بغية حسم الصراع حول تشكيل مستقبل المنطقة وتوظيف حالة الفراغ الاستراتيجي لصالحها بعد ما يعرف بـ"الربيع العربي"،وذلك في مواجهة دور الاجهزة الامنية الوطنية  اما بخلق رؤية وطنية وإقليمية للمستقبل تعبر عن ارادة شعوبها، او من خلال دعم دورها في تعزيز الحماية والدفاع ضد تلك المخططات استنادا الى درجة كبيرة من التلاحم الشعبي.  

 التخابر مع تركيا    

 

بدأت القضية بعد توجيه النيابه العامة اتهامات لـ29 متهما واخرين هاربين داخل وخارج البلاد، وذلك باتهامهم  بالتخابر مع تركيا

بقصد الإضرار بالمصالح القومية، والانضمام إلى جماعة إرهابية، وتمرير المكالمات الدولية بغير ترخيص، وغسيل الأموال المتحصلة من تلك الجريمة، والاتجار في العملة بغير ترخيص. وجاء ذلك بعد تمكن المخابرات العامه من رصد  اتفاق عناصر تابعة لأجهزة الأمن والاستخبارات التركية مع عناصر من التنظيم الدولي للإخوان ،وذلك بهدف  وضع مخطط لاستيلاء جماعة الإخوان على السلطة،و إرباك الأنظمة القائمة فى مؤسسات الدولة المصرية بغية إسقاطها وذلك على غرار ما حدث ابان 25 يناير 2011  

وقام المتهمين بتمرير المكالمات الدولية عبر الانترنت  باستخدام خوادم بتركيا،لتمكنهم من مراقبتها وتسجيلها،للمساهمة في رصد الأوضاع السلبية والإيجابية ،ومعرفة توجهات فئات المجتمع  فيها، وجمع المعلومات عن مواقفهم،بالاستعانة بالعديد من أعضاء التنظيم الإخواني وآخرين في الداخل والخارج ،وحاولت الخلية كذلك  إنشاء كيانات ومنابر إعلامية تبث من الخارج، باستخدام الأموال التي تدرها من عمليات تمرير المكالمات الدولية، وتوظيف كل ما يصل إليها من معلومات وبيانات لاصطناع أخبار وشائعات كاذبة لتأليب الرأي العام ضد مؤسسات الدولة 

وبخاصة مع الاقبال على استخدام المكالمات الدولية عبر شبكة الانترنت  بين المصريين في الخارج للتواصل مع ذويهم من خلال مكالمات هاتفية أو عبر تقنية الفيديو مقابل رسوم زهيدة لا تقارن بتكلفة الاتصال عبر الخطوط الأرضية أو الشبكات الرسمية التر تربط الدولة بغيرها من دول العالم

واستغل المتهمين هذه التقنيات للاتصال عبر شبكة الإنترنت الفائقة السرعة لتقديم خدمة الاتصال الدولي بعيدا عن رقابة الحكومة وبالمخالفة للتراخيص التي تمنح للجهات التي تقدم هذه الخدمات للاتصال.وهو ما يفقد الدولة  رسوم  وضرائب جراء القيام بهذه الاتصالات ،ويفقدها  كذلك القدرة على السيطرة علبها ،كونها لا تتم عبر خطوط الاتصال الارضي او كوابل الالياف الضوئية التابعه للدولة . 

وما يزيد من وطأة استخدام تلك الانماط الجديدة للاتصال وجود تقنيات اخري اكثر تقدما تعمل على اختراق انظمة تشغيل الهواتف الذكية او الكمبيوتر ،وامكانية استخدام الاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الصناعية ،أو استخدام اجهزة ارسال واستقبال الموجات الكهرومغناطيسية ،واجهزة متقدمة في التجسس متناهية الصغر من بينها كاميرات ومفاتيح سيارات وأقلام تستخدم في عمليات تسجيل المحادثات الصوتية أو التقاط الصور ومقاطع الفيديو.    

خصائص متفردة  

 

على الرغم من قصر النشاط التجسسي المحترف على الدول الكبري لما تملكه من قدرات تكنولوجية ومعلوماتية الا ان الثورة المعلوماتية مكنت دول متوسطة وصغري كذلك من ممارسة قوة نسبية في ممارسة هذا الدور الجديد، في ظل عصر غلب علية الصراع حول المعرفة والمعلومات ، ناهيك عن البيئة الامنية المضطربه ازاء التطورات التي تمر بها المنطقة العربية، والتقدم الكبير في الاستخدام والانتشار لتكنولوجيا الاتصال،وهو الامر الذي وفر بيئة حاضنة لبرز فاعلين جدد في التجسس الى جانب النشاط العسكري المباشر ، والذي يعبر عن  صراع الارادات وتضارب المشاريع الاقليمية، ومدي تواكبها مع مواقف القوى الكبري ،
وفي السياق ذاته  تم رصد دور صاعد لقوى اقليمية  تحاول ان تبسط هيمنتها ونفوذها عبر تبني  نشاطات عديدة للتجسس .ومن الزواية الاقليمية برز دور ايران وقطر وتركيا الى جانب اسرائيل في التجسس على دول المنطقة ،حيث وظفت طهران شبكات التجسس في اختراق المجتمع الخليجي ودعم للأقليات الشيعية ، وتأسيس "كيانات لحزب الله بها "،الى جانب الدور الايراني في دعم الحوثيين في اليمن ،وبرز الدور القطري في التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية  الى جانب الدور التركي عبر دعم جماعه الاخوان المسلمين والحركات الجهادية العنيفة  في سوريا وليبيا و مصر ،ورفض الاعتراف بالدولة المصرية بعد 30 يونيو .
 

 وعلى الرغم من عدم اللجوء الى المواجهة العسكرية بين العديد من الفرقاء في الاقليم  فقد ظهرت ساحة سرية لإدارة اوراق اللعب الاقليمية اما عبر ادارة برامج للتمويل السري للمليشيات العسكرية او بتقدم دعم معلوماتي واستخباراتي او بتوفير غطاء اعلامي وسياسي  ، أو بالانتقال من  الاسلوب التقليدي للتجسس الى توظيف الشبكات الاجتماعية في بث الصراع المذهبي عبر ادارة حسابات على شبكات التواصل الاجتماعي .  ومن جهة اخري تعرضت المنطقة الى نشاط استخباراتي محموم من جانب اسرائيل على الرغم من انخفاضة مقارنه بظروف سابقة تحت وطأة التغييرات الامنية الكبيرة في دول المنطقة ،والتي جعلتها تدير مشروعها عبر تبني تنظيمات وزرع افراد داخل التنظيمات الارهابيه المتطرفة ،
والتي تنشط بشكل بارز في سوريا وبدرجة اقل لبنان ،ولعبت كذلك  قوى دولية اخري  في الدعم المعلوماتي والاستخباراتي لاطياف متعددة من الحركات المسلحة ضد النظام السوري ،او بدعم نشاط الجماعات الارهابية في ليبيا و مصر .   

ولا شك ان حالة الخلاف السياسي بين مصر وتركيا كان لها انعكاس على انتقال الاخيرة الى ادارة خلافها مع القاهرة عبر تبني اساليب قذره وتمويل انشطة سرية للجماعات الارهابية والتي رات في سقوظ نظام "محمد مرسي" انتهاء لمشروعها التوسعي في المنطقة واستعادة ارثها العثماني،ومن جهة اخري تحاول قطر ان تتحول الى قطب اقليمي فاعل استنادا اى ذراعها الاعلامي "الجزيره"والمالي "عائدات الغاز" ،وهو الامر الذي جمع  قطر وتركيا في تحالف عسكري ثم توقيع اتفاقية للتعاون في مجال الامن الالكتروني في شهر اكتوبر الماضي ،ويجمع بينهما كذلك دعمهما اللامحدود لـجماعه الاخوان المسلمين ومحاولتهما زعزعة الاستقرار والامن في الاقليم . 

 

 

وحملت قضية "التخابر مع تركيا "،عدة خصائص متفردة ,لعل اهمها : 

،اولا ، الانتقال من الاعتماد على تحليل الشبكات الاجتماعية كمقياس للراي العام المحلي الى الاعتماد على الاتصالات كنمط من التفاعل الكاشف عن المحتوى والاتجاهات والفاعلين. 

ثانيا،الضرر المزدوج حيث عمدت "خلية التجسس "،على المزج بين ارتكاب جريمة اقتصادية  عبر جنى عوائد مالية من المكالمات الدولية الى جانب توظيف المحتوى في شن حرب نفسية وبث الشائعات. 

وثالثا،  توفير التمويل الذاتي للنشاط الارهابي عبر ابتكار ادوات تمويل جديدة في الداخل للحيلولة دون التعرض لعقبات تتبع التمويل الدولي. 

ورابعا ، اتاحه الفرصة  كذلك للتصنت على المسئولين والمشاهير وهي الفئة التي قد  تعتمد على اجراء المكالمات الدولية الى جانب فئات اخري ،وهو ما يعمل على توفير صيد ثمين من المعلومات من جهة والعمل على استقطاع اجزاء منها ونشرها للإضرار بالأمن القومي . 

خامسا، يعد نشاط الخلية اول نشاط تجسسي تركي يتم رصده والاعلان عنه الى جانب الدعم السياسي والإعلامي لجماعه الاخوان المسلمين وهو ما يعكس حجم الرهان التركي على دعمهم. 

سادسا ، الكشف عن تحويل عملية التجسس على الاتصالات من خلال افراد مستهدفين فقط الى توسيع قاعدة الاستهداف لتكشف عن عينة عشوائية اوسع من الشعب المصري  

سابعا ،استخدام التجسس لتعزيز فرص الدعم الخارجي للجماعات الارهابية كأدوات لتنفيذ اهداف السياسة الخارجية لتركيا ،وزيادة الاعتماد على تامين الاتصالات بين العملاء في الداخل ومن يشغلهم في الخارج  .  

 

 

بيئة امنية جديدة 

 

 

 

لاشك ان لجوء الدول  الى تصفية حساباتهم عبر استخدام الانشطة السرية يكشف عن حجم الصراع وتعدد انماطه ،وكذلك عن انسداد عملية ادارة العلاقات الدولية بالطرق السلمية وفق ما تقره المواثيق الدولية ،وعلى مدار التاريخ كان التجسس وجمع المعلومات من المهام الاساسية للحماية من الاخطار المحتملة للأمن القومي ، ولكن بات يتم  استخدام تلك المعلومات والثورة المعلوماتية في اختراق الامن الداخلي والتدخل في الشئون الداخلية وتجنيد العملاء وسرقة الاسرار الصناعية والعسكرية ،ونزيف العقول واغتيال العلماء الى جانب شن وتوجيه الحروب النفسية . 

 

وطرأ متغير جديد في المنطقة يتمثل في ادارة مشروعات تغيير المنطقة عبر مساندة قوى اقليمية ودولية لجماعات ارهابية مسلحة كأدوات لتنفيذ اجندة سياستها الخارجية،وفي اطار ادارة خارجية للأفكار المتطرفة للعمل على التعبئة والحشد من اجل التدمير الذاتي للمقدرات الوطنية لدول الاقليم . 

وكذلك عبر تقديم الدعم غير العسكري لتلك الجماعات عبر تعزيز قدراتها في المجال السيبراني وقدرتها على ادارة اتصالها بين اعضائها او بينها وبين من يقف وراء تمويلها بعيدا عن مراقبة اجهزة الدوله.       

 وقد تصاعدت مخاطر العلاقة بين الأمن والتكنولوجيا في المشهد الدولي. فبقدر ما أسهم الفضاء الإلكتروني في بروز مناح إيجابية للاستخدامات المدنية  فإنه أتاح الفرص كذلك للاستخدام غير السلمي ، والتي منها ذو الطابع التخريبي، مثل الهجمات والحروب الإلكترونية، ومنها ذو الطابع المرن والمنخفض الشدة، كالتجسس وحرب المعلومات من جانب أجهزة الاستخبارات الدولية من أجل دعم أنشطتها السرية في جمع المعلومات من مناطق الاستهداف، ومعرفة توجهات الرأي العام في الدول المختلفة، والإحاطة بتوجهات القادة والزعماء، والنخب، ودوائر صنع القرار القريبة

وليحدث بذلك الفضاء الإلكتروني ثورة في عمل أجهزة الاستخبارات الدولية، ودخل في تحديد أهداف ومهام ومراحل تنفيذ الأنشطة الاستخباراتية، سواء تلك التي تتم في المجال الخارجي أو داخل الدول.

واستفادت تلك الأجهزة ايضا بتوافر كم هائل من المعلومات،وهي التي كانت تعاني في السابق من شحا في مصادر المعلومات، وصعوبات في التحليل، وتزايد أهمية العنصر البشري في العمل الاستخباراتي ،وكان لتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصال دور في معالجة البيانات بأسرع وقت، وبأقل جهد، وبأقل تكلفة، والخروج من ذلك بتحليلات كمية سهلة تساعد في عمليات التحليل، وفي بناء التوقعات والتنبؤات المستقبلية، والمساعدة في النهاية علي طرح البدائل والخيارات المناسبة التي تسهم في عملية صنع القرار الخارجي  

وعلي الرغم من قدم الارتباط بين أجهزة الاتصال، وعمل الاستخبارات الدولية، فإن الإنترنت والاتصالات أحدثا تطورا جذريا في عملها، واتسعت دائرة تجنيد العملاء وتنسيق المهام، وانتقال التمويل، وتطوير وسائل الرصد والرقابة، وجمع المعلومات والتحليل 

وظهر مسرح جديد لحرب معلومات من نوع خاص يمزج بين بيئة جديدة وأداة غير تقليديه في ظل بيئة أمنية يغلب عليها الشك وعدم اليقين، وتصاعد المخاطر فيما أطلق عليه "مجتمع الخطر". وأصبحت عملية الصراع حول معرفة ماذا، وكيف، وأين، ومتى هي سمة عصر المعلومات والمعرفة، والتي تعبر عن أوجه إلكترونية غير مسبوقة في شمولها، وعمقها، واختلافها، واتساع نطاق تغطيتها، فضلا عن فداحة أضرارها وذكاء منفذيها، وتعقد آلياتها.  

ومن ثم فان عملية مواجهة المخاطر الامنية الجديدة المستندة على حالة التقدم المتسارع في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تفرض تبني سياسات وتطبيقات تلائم ذلك التطور ،ودمجها  في استراتيجية الأمن القومي.،  

 وهو ما يفرض اهمية التحديث التشريعي لتناول تلك الجرائم وتغليظ عقوبتها ، واهمية بناء القدرات الوطنية في مجال الامن السيبراني ،والتدريب حول سبل التعاطي مع المستجدات التكنولوجية، واهمية رفع الوعي بمخاطر استخدام تلك الانماط الجديدة على الامن القومي،والعمل على تحويل تحديات الثورة المعلوماتية  الى فرصة للدفاع عن المصلحة الوطنية في ظل بيئة جديدة يغلب عليها الصراع علي الاستحواذ علي المعلومات والمعرفة، والتي أصبحت رمزا للقوة والمكانة والثروة

ويبقي القول ،ان الخسائر التي تستهدف الاقليم ليست فقط في البنية التحتية او في سقوط الضحايا الابرياء كل يوم والتي تجاوزت 600 مليار دولار وما يزيد على نصف مليون قتيل والالاف من الجرحي والملايين من اللاجئين ،بل ان هناك نزيفا اخر في المال والمعلومات بما لهما من تأثير في الحاضر والمستقبل،

*خبير بمركز الاهرام للدراسات السياسية والإستراتجية-مدير مشروع المركز العربي لأبحاث الفضاء الالكتروني 

 



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>