انتحار رقمي

07-10-2017 07:11 PM - عدد القراءات : 758
كتب العرب نهى الصراف
الحكمة تقول لا مكان للحكمة في عالمنا هذا طالما سمحنا لأخطبوط التقنية بالتحكم في مفاصل حياتنا، وتوجيه لحظات الفرح والحزن، الحياة والموت، النجاح والفشل، على وقع كاميراته وأجهزته الرقمية المقيتة.
انتحار رقمي

في الأقل، كان هناك أحد ما على الجانب الآخر من جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الجوال أو أي وسيلة اتصال، تسنى له مشاهدة الحادثة بالتفصيل، ثم نجح في الاتصال بالإسعاف في محاولة لإنقاذ الرجل الذي كان يموت في الطرف الآخر، على الهواء مباشرة، بعد أن سمح لأفعى (صديقة) بإنجاز المهمة الصعبة ومساعدته في إنهاء حياته، والسبب؛ فشل علاقته الزوجية!

تكررت كثيرا هذه الحوادث التقنية، ويبدو أن الناس لشدة تعلقهم باستخدام أجهزتهم الرقمية في كل ثانية وتفصيلة من حياتهم، فهم مستعدون لمشاركتها حتى في لحظات حياتهم الأخيرة وكأنها الكاهن المخلص الذي يقف إلى جانب سرير الموت لمباركة حشرجات الاحتضار، لكنه كاهن بلا قلب تتحدد مهمته بنقل تفاصيل الموت بالصوت والصورة من دون أن يمنح المحتضر مباركته.

كان خبير الثعابين الروسي أرسلان؛ وهو موظف سابق في حديقة الحيوانات، قد سمح لنفسه بتصوير واقعة موته على خلفية بث مباشر على الإنترنت في إحدى مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن سمح لأفعى المامبا السوداء بعض إصبعه تمهيدا لتسميمه في واحدة من أغرب طرق الانتحار الحديثة.

وعندما بدأ الخدر يصل إلى أطرافه، ناشد المدوّن المشاهدين الذين تسمّروا خلف شاشاتهم، للاتصال بزوجته لرغبته برؤيتها في اللحظات الأخيرة. طبعاً لم تظهر من مراحل الموت سوى إصبع الرجل التي لوح بها أمام الكاميرا وكانت اللدغة واضحة فيها، أما لحظة مهاجمته من قبل الأفعى ولحظات التدهور والتشنج فلم تكن واضحة أو ربما كان من الصعب على الرجل أن يوثقها بدقة لانشغاله بالاحتضار!

كل ما تسنى للمشاهدين ملاحظته، أن أرسلان غادر كرسيه أمام الشاشة وذهب مسرعا إلى الحمام، ثم خرج إلى الشارع في محاولة لطلب المساعدة، لكن يبدو بأنه مات بعد مرور وقت قصير.

كان الرجل يريد الانتقام من حبيبته على طريقة روميو وجولييت كما أوضحته التفاصيل العاطفية للعرض الانتحاري الموفق، ولهذا فضّل أن يهديها لحظة موت يمكنها أن تستمتع بمشاهدتها مرارا وتكرارا عن طريق هاتفها المحمول، كلما وخزها ضميرها بذكرى عابرة من حبيب قديم قتل نفسه حبا لها!

أما الرسالة التي تخللتها حشرجة أنفاسه، فكانت تقول “أخبروا كاتيا بأني أحبها.. كثيرا.. اللعنة.. أخيرا نجحت في القيام بهذا الأمر.. لا أستطيع أن أصدق بأن هذا يحدث لي.. وداعا للجميع”.

ثم، بعد كل هذا، ألا نستطيع أن نحتفظ بخصوصياتنا قليلا، بعيدا عن أجهزة التصنت الحديثة؟ وهل أصبح الموت استعراضا مشاعا للآخرين أم هو محاولة لمقارعة عدو لم يطلب المبارزة، سيكون زائرا غير مرغوب به لمشاهد جالس في الطرف الآخر من عالمنا، يسمع ويرى ويتخيل عذابنا ثم يرتجف بانتظار مصير قد يكون أسوأ؟

هل بالإمكان أن ننهي علاقات حبنا الفاشلة بتناول حبة صداع وعليها قدح من ماء بارد عديم اللون والطعم والرائحة؟ كل هذا ممكن طبعا بقليل من الحكمة، والحكمة تقول لا مكان للحكمة في عالمنا هذا طالما سمحنا لأخطبوط التقنية بالتحكم في مفاصل حياتنا، وتوجيه لحظات الفرح والحزن، الحياة والموت، النجاح والفشل، على وقع كاميراته وأجهزته الرقمية المقيتة.

كاتبة عراقية

نهى الصراف




© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>