الإبداع والمعرفة

07-09-2017 02:41 PM - عدد القراءات : 1356
كتب حميد سعيد
في الإبداع، تختلف عن المعرفة في البحث الأكاديمي مثلاً، لأنها في الإبداع تأخذ أهميتها من حضورها الجمالي، بينما في البحث الأكاديمي تأخذ أهميتها من حضورها المباشر.
الإبداع والمعرفة

ليس من إبداع حقيقي، في جميع مجالات الأدب والفن، لا يقترن بمعرفة حقيقية، مصدرها المعايشة والمشاهدة والقراءة والسماع والحوار، من خلال تمثل عميق، وليس من خلال استقبال سطحي لمصادر المعرفة.

وإذا كان الشائع في هذا المجال تحديداً، إن المواهب المتميزة هي التي تعطي إبداعاً متميزاً، فالموهبة استعداد لدى المرء، لكنها لا تظهر إلا بالتجربة والاجتهاد، ومن دونهما تضمر وتنتهي إلى غياب، وما أكثر ما أدركنا من مواهب لدى أشخاص في المراحل العمرية المبكرة، لكنها ضعفت وضمرت وغابت، ولم تظهر نتائجها بسبب عدم الاهتمام بها، وفقدان الاجتهاد من أجل تنشيطها.

إن المعرفة في الإبداع، ما كانت ولن تكون، مجرد مقولات تُحفَظ، وحكمِ تُكرر، بل هي حالة التمثل وإدراك المتغيرات، فالحياة الإنسانية في تحولات مستمرة، في الثقافات والمفاهيم، وإن الإنسان منذ أن تشكلت المجتمعات في ظل حضارات عديدة وثقافات مختلفة، عايش تعددية، لم تقدر أية أحادية، مهما كانت تلك الأحادية، أن تلغي مفاهيم غيرها، وقد حاولت أحاديات مختلفة، إمبراطورية وأيديولوجية وأسطورية وغيرها، أن تكون هي الحياة، لكن الحياة في حيويتها ومتغيراتها ظلَّت أقوى من تلك الأحاديات، فاستمرت في تعدديتها وتجددها وحيوية متغيراتها، لذا كان جوهر الإبداع في الكتابة والتشكيل والموسيقى، هو ما تمثَّل الماضي وعبَّر عن الحاضر، وتوفر على قدرة التواصل مع المستقبل.

حين صدرت مجموعتي الشعرية ” أولئك أصحابي” وهي محاولة جمالية لتمثل التعدد المعرفي من خلال شخصيات وأحداث روائية، تنتمي إلى عدد من الأزمنة وعدد من الثقافات والمجتمعات والتجارب الإنسانية، سألني أحد النقاد قائلا: قد يظن بعض القراء بأن استخدامك لهذه الشخصيات من باب المماحكة الثقافية وإبراز العضلات المعرفية، وقراءاتك، فماذا ترى؟

ورغم ما أدركته من توجه في السؤال، للإثارة، قلت ما معناه: لا عليك بالظن، وقبل أن أجيب عن هذا السؤال، أود القول بأن لا اعتراض عندي على الفكرة، وأعترض على الوصف، حيث يوحي بأن التوفر على المعرفة هو استعراض عضلات معرفية! والفرق كبير بين المعرفة واستعراض العضلات، حتى لو كانت معرفية.

نعم، أنا أوظف ما أتوفر عليه من معرفة وما أمتلك من ثقافة، في كل ما أكتب، وبخاصة في الشعر، وقد عرفنا شعراء كثيرين موهوبين، وبداياتهم تفصح عن موهبتهم، لكنهم يظلون عند البدايات، يكررونها من دون تجديد أو إضافة، لأنهم لا يملكون ثقافة عميقة وجادة وحيوية، أو لأن ثقافتهم محدودة وهامشية، وأمثال هؤلاء، إما أن ينصرفوا عن الكتابة الشعرية، فتضمر موهبتهم، أو أن يكون نتاجهم مجرد كم يتكرر.

وسواء في قصائد هذه المجموعة، أم في سواها، أجد في الثقافة وفي القراءات ما يغني تجربتي الشعرية ويعدد مساراتها وينفتح بها على آفاق جديدة وأمداء واسعة.

وأقول: أيكون على المبدع أن يتنازل عن معارفه وتجاربه، ويضعها في محيط معزول، لتبدو سطحية وباهتة، لا تقارب إلا ما هو شائع ومعروف ومكرر، من أجل أن يتصالح مع ناقد كسول وقارئ أكثر كسلاً، أو مستمع يصفق لما يعرف وينأى بنفسه عما لا يعرف؟

غير أن المعرفة في الإبداع، تختلف عن المعرفة في البحث الأكاديمي مثلاً، لأنها في الإبداع تأخذ أهميتها من حضورها الجمالي، بينما في البحث الأكاديمي تأخذ أهميتها من حضورها المباشر، فالنص الإبداعي طائر بجناحين، الفكر والجمال، وبهما معاً يبلغ أفقاً أوسع.

كاتب عراقي

حميد سعيد



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>