العلاقات العاطفية والغرامية في عصر تطبيقات الإنترنت

05-06-2017 08:18 AM - عدد القراءات : 635
كتب كهييه فام
جئت إلى نيويورك لأكتب تحقيقاً صحافياً يتناول الحب المعاصر. وذهبت يوم جمعة ليلاً إلى أحد الأندية الليلية النيويوركية. واخترته بناء على تزكية إحدى المجلات التي أحصته بين 3 نوادٍ هي خير مواقع لمراقبة المغازلة في المدينة
العلاقات العاطفية والغرامية في عصر تطبيقات الإنترنت

جئت إلى نيويورك لأكتب تحقيقاً صحافياً يتناول الحب المعاصر. وذهبت يوم جمعة ليلاً إلى أحد الأندية الليلية النيويوركية. واخترته بناء على تزكية إحدى المجلات التي أحصته بين 3 نوادٍ هي خير مواقع لمراقبة المغازلة في المدينة. واستعنت بهاتفي، وفتحت تطبيق «تندر». فاقترح التطبيق عليّ صور عازبين وعازبات دون سن 30، ويقيمون (يقمن) في الجوار. وفي أقل من ربع ساعة جمعت 6 «تطابقات» (ماتشز)، على ما تسمى، أي 6 أشخاص يروقون لي وأرق لهم. وأنجزت هذا «العمل» من غير أن أكلم أحداً أو أوسطه، ومن غير أن اضطر إلى ترك مقعدي.

وتذكرت أن 10 أعوام انقضت اليوم (في منتصف) 2016 على سماعي زوجين من دائرة أصحابي يقرّان لأول مرة بأنهما تعارفا من طريق الانترنت. وكنت أسمع من معارفي وزملائي أخبار لقاءات في حانات أو نواد ليلية قبل أن تتواتر أخبار لقاءات وعلاقات انعقدت على «إيليت بارتنر» و «أوكي كيوبيد» و «تيندر» (أسماء تطبيقات «حامية» على الآي فون). وبدا الشبه قوياً بين هذه الروايات والاخبار وبين المسلسلات التلفزيونية: يرشح المرء (او المرأة) نفسه، ثم يتفحص إنجازات المرشحين الآخرين، ويغربل المرشحين (أو المرشحات) ، قبل أن يَختار ويُختار. واستوقفني في سوق اللقاءات والعلاقات هذا امتياز الرجال على النساء، وتمتعهم بيسر لا تتمتع به النساء. وخيّم على بدايات تحقيقي سؤال راودني منذ زمن: لئن كان لقاء المرأة برجل اليوم أيسر كثيراً مما كان عليه الأمر بالأمس، ألم يمس الحب أصعب وأبعد منالاً؟

ولا يقتصر سعي كلايد (راموس) على تكثير اللقاءات والعلاقات على «تيندر». فهو يتوسل بـ «انستاغرام» و«فايسبوك»، ولا يهمل تبادل الكلام والحديث على مقعد عال في الحانات القريبة. وكان فرنسيس فوكوياما (صاحب «ختام التاريخ» أو «نهايته») لاحظ أن المجتمع المعاصر يحول دون إيقاع كل النساء اللواتي يلتقيهن الرجال حوامل، وذلك أن المعايير الاجتماعية تقيد النزعات «الطبيعية» أو التلقائية. وما كان صائباً وصحيحاً قبل عشرين سنة تعاظمت صحته وصوابه اليوم. فمن يستعين بتطبيق «تيندر» للقاءات في غنى عن الارتباط والإخلاص والاضطلاع بمسؤولياتهما. وفي مستطاع الرجال العودة إلى «صيد» الطرائد، ومعاملة النساء معاملة الغنيمة. وعكس هذا صحيح كذلك، وإن قل كماً. وقد لا يكون ابتكار مواقع اللقاءات والتعارف، مثل «تيندر» و «أوك كيوبيد» و «فايسبوك» إلى حد ما، عن أيدي رجال (ذكور) مصادفة، شأن توسل المواقع إلى وصل المطالعين بالجاذبية البصرية أو المرئية. وجواب انترنت عن عامل الجاذبية يردنا إلى العصر الحجري: فاللواتي يجذبن الرجال الذين تترجح سنهم بين العشرين والخمسين هن من أعمار دون الـ25 سنة، أي «الولودات»، على ما لاحظ مؤسسو موقع «أول كيوبيد» كريستن رودير. ولا يخفي كلايد راموس، وهو اقترع لهيلاري كلينتون وانخرط في حملتها، أن العالم القادم قد تقوده نساء. وهو لا يريد أن ينتهي به المطاف إلى شبه عمه (45 سنة) الذي تربطه علاقات غرامية بأربع نساء، وكلهن يكرهنه. ويقول كلايد أن علاقاته النسائية هي من أعراض «مرضه» و «أوهامه» و «وحدته». وهو على يقين من أن عليه السعي جاداً في الارتباط بامرأة يحبها وتحبه، ويلاحظ أن طاقته على مثل هذا الارتباط تتضاءل مع تقدمه في السن، ويدرك من غير شك أن النساء العابرات لسن إلا احتيالاً على فراغ حياته. فهل نحن مفرطو النرجسية لنحب حبَّ عشق إنساناً آخر؟

وفي يوم من أيام الشتاء الماطرة، جلست في مقعد وثير بصالة مسرح في مدينة دوسيلدورف. وانتظرت أن تفهمني المسرحية، «جيل من غير التزام» لمايكل ناست، لماذا يفضي الحب إلى الخيبة، لا محالة. ونظرت حولي فإذا الجمهور كله من النساء. والكاتب (41 سنة) لقي رواجاً كاسحاً، وأصبح نجماً على «يوتيوب»، وخبيراً لا يبارى في العلاقات الغرامية المعاصرة. ونشر قبل سنة على موقع «إم جيجينتايل» imgegenteil.de (على النقيض) مقالاً عقد مقارنة بين جيل والديه وبين جيله، وكتب: «كانا متزوجين، واشتريا منزلاً، وولدا أولاداً، واقتنيا سيارتين، فلم يبق ما يعترض حياتهما المشتركة»، وبلوغ الـ40 اليوم هو نظير بلوغ الـ30 في أيامهما، وبلوغ الـ30 هو نظير الـ20، فلا بأس اليوم بالسكن في شقة مشتركة أو بالقول إن الوقت لا يزال على الأولاد مبكراً ولم يحن بعد.

وهذا الرأي ليس مبتكراً، ولكن صداه كان عميقاً وقرأه فوق مليون متصفح في أسابيع قليلة. وجليّ أن ألمان كثيرين يشعرون بالقصور عن عقد علاقة غرامية متينة. فمن ثلاثة ألمان راشدين ثمة واحد عازب. وعلى هذا فسوق متصفحي التطبيقات «الغرامية» هائل. وقد يكون الجواب عصياً عن سبق إحدى الظاهرتين الأخرى: مرونة عالم العلاقات الغرامية أم الرغبة في تقصي كل العلاقات المتاحة. ولا ريب في تعالقهما، وعلى قدر انخراطنا في الرأسمالية المتأخرة ترتخي علاقاتنا وتصيبها الهشاشة، ونضعف عن التزام قرين. ويصف عالم الجنسانيات فولكمار سيغوش الحال بالقول: معنى هذا نقل قانون العرض والطلب إلى قلب حياتنا الحميمة.

وأذكر أن إحدى صديقاتي اشتركت في موقع لقاءات وعلاقات. وحال اشتراكها خيرها الموقع بين 11704 رجال أوصى بهم. وبعد 3 أيام بلغها 17 طلب (علاقة). ونقرت على مواصفات المرشحين كمن ينقر على مواصفات سلعة: الصور الفوتوغرافية، الطباع، طريقة التعارف («مرحبا! ماذا تكتبين؟ الشعر؟»). ولم تلبث الصديقة أن انتابها شعور بالغرق في بحر رجال، فشطبتهم الواحد بعد الآخر: فهم إما يقدمون أنفسهم تقديماً مملاً، وإما تشي صورهم الفوتوغرافية باضطراب لم تستسغه.

فانتبهت إلى ان أختيار قرين يشبه البحث عن وظيفة أو شراء شقة سكن، ويقتضي الاحتكام إلى معايير مثل تقويم الكلفة واحتساب مترتبات الاختيارات ومقارنة نتائجها. وفي دوسيلدورف يقرأ مايكل ناست بصوت رخيم: «ينتقل فيليب من تطبيق لقاءات إلى تطبيق آخر، على شاكلة انتقال ماغدا من مبيعات محل على الخط (أونلاين) إلى مبيعات زارا أو «إتش أند إم حين تتسوق».

وغداة مشاهدتي المسرحية أخبرني ناست أن بعض الجمهور من النساء ينتهزن الفرصة ويكتبن له رقم هواتفهن على ورقة. وروى لي ونحن نتنزه في شوارع دوسيلدورف أن 7 نساء اقترحن عليه مرافقتهن بعد أمسية قراءة بمدينة كولون. وتبلغه كل يوم على «فايسبوك» دعوات إلى تناول القهوة. وهذه كلها اقتراحات علاقة من غير تورط. وهو لا يتخيل نفسه «متورطاً» في علاقة مستقرة وثابتة. فهل يتصور أحد صديقة تقبل بمثل هذه الحال، ولا تهلك أسى وغيرة؟ لا، طبعاً. وحين سئل عن «امرأة أحلامه» ضحك وأجاب بكلام على «مستوى العينين»، وإقباله على «كل ما قد يتاح»، وهواه السمراوات والبشرة الشاحبة؛ وهو يحرص على ألا يلتقي من لم يبلغن الـ25 سنة، ولا يحرجه أن يتعدى طول الواحدة 1 سنتم أو 2 طوله، ويجد نساء شرق ألمانيا أقل ادعاءً من نساء غربها...

وشأن رجال كثيرين، يبدو ناست أسير نزاع لا مخرج له منه: فهو يصف نفسه بالخجل ويستهول ارفضاض امرأة عنه وتركها إياه، من جهة، ولكن النساء اللواتي يبادرن إلى اقتراح علاقة لا يجذبنه، ولا يراهن أهلاً للحب. وفي الأربعين من العمر، لا يزال ناست يسأل عمن يكون، عمن هو، فعلاً. وهو ربما لا يبحث عن الحب مقدار بحثه عن نفسه. وهذا النازع النرجسي هو مرآة اضطراب الأنا المعاصرة، وتمثيل دقيق على حاجة هذه الأنا إلى الطمأنة وجناحها. وشطر كبير من الشبان الألمان يتطلعون إلى قرين يطمئنهم إلى فرادتهم، على رغم أنهم كلهم من غير استثناء تقريباً يستعملون «السمارتفون» ذاته، ويشاهدون المسلسلات عينها، ويقصدون في رحلاتهم وعطلهم أماكن سياحية معروفة.

ويلاحظ متصفح موقع «إم جيجنتايل» الذي أنشأته امرأتان «رومنطيقيتان» (رومنسيتان) على ما تصفان ميولهما، هما آني كراليش بيهلكي ويولي موللر، أنه ينشر 400 سيرة حياة صيغت بأسلوب حار، وأقرب إلى القارئ المتصفح من أسلوب «إيليت بارتنر». والصديقتان يحملهما من يتعرف إليهما على زوجين. ولكن آني كراليش بيهلكي (33 سنة) متزوجة منذ 7 سنوات، ويولي موللر تكبر صديقتها بسنة واحدة، وعازبة من جديد منذ سنة واحدة. ويخلص تقص أعدته «داي زايت» ومركز البحوث العلمية الاجتماعية ببرلين ومعهد العلوم الاجتماعية التطبيقية إلى أن 90 في المئة من الألمان يحلمون بـ«الحب الكبير» على رغم كل الخيبات. وتدل إحصاءات الموقع على أن معظم النساء المشتركات هن في سن الـ25، ومعظم الرجال في سن الـ35، شأن إحصاءات المواقع الأخرى. فمقتضيات السن البيولوجية، لا تعف عن أحد. فإذا بلغت النساء الـ35 سنة، وقررن أنه آن لهن أن يعقدن علاقة ثابتة وربما يحملن، أجاب الرجال:» لست الرجل المناسب!» فهم يخشون النساء اللواتي يرغبن في علاقة ملزمة أو تفترض الرغبة في الالتزام، تقول موللر. والمفارقة أن إصابة النساء نجاحاً مهنياً لا تفضي إلى حياة «عاطفية» مُرضية، فالرجال النافذون يؤثرون نساء أقل رتبة ونفوذاً منهم.

* مراسلة الصحيفة، عن «دي تسايت» الالمانية، 13/7/2016، إعداد منال نحاس.

This article has been published at alhayat.com. Unauthorised replication is not allowed.



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>