عصر الروبوت: "أتمتة" الوظائف.. كيف يواجه العالم تراجع أسواق العمل؟

16-08-2016 05:34 AM - عدد القراءات : 322
كتب أندريو ماكافي- إريك برينجولفسون
تناقش دراسة أندريوو ماكافي وإريك برينجولفسون المنشورة في العدد الأخير من مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs، مسألة صعود الحواسيب الذكية التي تمتاز بالقدرة على التعلم التلقائي، وتزايد احتلال الآلات للوظائف التي كان البشر ينفردون بها في وقت ما، من خلال أتمتة(*) Automation هذه الوظائف، وتداعيات ذلك على أسواق العمل في الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا، بوصفها أكبر منتج ومستهلك للتقنية.
 عصر الروبوت: "أتمتة" الوظائف.. كيف يواجه العالم تراجع أسواق العمل؟

تناقش دراسة أندريوو ماكافي وإريك برينجولفسون المنشورة في العدد الأخير من مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs، مسألة صعود الحواسيب الذكية التي تمتاز بالقدرة على التعلم التلقائي، وتزايد احتلال الآلات للوظائف التي كان البشر ينفردون بها في وقت ما، من خلال أتمتة(*) Automation هذه الوظائف، وتداعيات ذلك على أسواق العمل في الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا، بوصفها أكبر منتج ومستهلك للتقنية.

 

ويدعو المؤلفان إلى البحث عن سياسات جديدة لحماية المهدَّدين بفقدان العمل، مع اغتنام مكاسب العصر الجديد في الوقت نفسه. ويفترضان أن ثمة مبدأين ينبغي أن يوجِّها القرارات السياسية في هذا السياق، وهما: السماح بالمرونة والتجريب بدلا من فرض الكوابح، وتشجيع العمل تشجيعًا مباشرًا بدلا من التخطيط لتقادمه. وتكشف الدراسة عن الصراع بين قوى التغيير المدفوعة بالتقنية وتداعياتها، وقوى "القصور الذاتي" التي تُحاول عرقلة التغيير، حفاظًا على مناصب ومصالح راسخة يتجاوزها الزمن، مستخدمة لافتات مختلفة مثل حماية الجمهور والحفاظ على "مستوى الملعب".

المبدأ الأول- المرونة والتجريب:

حينما يتسارع التغيير وتقل القدرة على التنبؤ، تكون الاستجابة السليمة هي إطلاق حرية التجريب والابتكار للأفراد والمنظمات، حتى تتاح لجميع عناصر دينامية الهدم الإبداعي الرأسمالية -في هذه الحالة إحلال التقنيات الرقمية محل العمل المعرفي- أن تتحرك بسرعات متوافقة، بينما تُعَد حماقة محاولة تثبيت عناصر منتقاة من النظام القائم.

ورغم أن المرونة هي المطلوبة في هذه الظروف، فالواضح أن صانعي السياسات يتحركون في الاتجاه المعاكس. يشهد على ذلك التناقص في دينامية الأعمال وفي سيولة سوق العمل في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، إذ تزايد الاتجاه إلى خفض الأجور، وفرض قيود كبيرة على تراخيص مزاولة المهن. وكما حذر جاسون فورمان، رئيس مجلس الاستشاريين الاقتصاديين، في عام 2015، فإن هذه التراخيص من شأنها أن تفرض تحديات على أسواق العمل، وضمنها انخفاض مشاركة القوة العاملة، وارتفاع البطالة طويلة الأجل، وزيادة التوظيف بدوام جزئي. ولعل ذلك ما حثَّ مشرِّعي بعض الولايات، مثل كارولينا الشمالية في العام الجاري، على حذف 15 قائمة تراخيص، منها تراخيص متعهدي الري والمرشدين الزراعيين.

ضبط مستوى الملعب:

يكشف بعض العوائق التي تعترض الشركات الشابة سريعة النمو المرتكزة إلى التقنية عن نوع آخر من فقدان المرونة؛ حيث يجتهد أصحاب المناصب والمصالح الراسخة من أجل الحفاظ على مراكزهم، وإبقاء هذه الشركات البادئة خارج الملعب. يتجلى ذلك، على سبيل المثال، في المعارك التنظيمية التي خاضتها شركة "أوبر" Uber لنقل الركاب بالأجرة، على الرغم من تقدير العملاء لما تتمتع به من راحة وسلامة، وتقدير السائقين لمرونتها ودَخْلها.

وغالبًا ما يزعم المدافعون عن الوضع الراهن أنهم يكافحون من أجل الحفاظ على مستوى الملعب. لكن ملاعب اليوم دون المستوى، ومنحازة لصالح الشركات الراسخة. ولم يعد للوائح التي صُمِّمت منذ عقود لحماية المستهلكين مما يسمى تفاوت المعلومات أي معنى في عصر المعلومات، فقد أصبح المستهلك يعلم عن السلع والخدمات الآن أكثر من أي وقت مضى، ويقوِّم مستواها علانية، ولعل ذلك ما يجعل الشركات الجديدة تحافظ على مستوى أدائها لإرضاء عملائها.

وهكذا، ينبغي أن تقل الحاجة إلى التنظيمات ذات الطابع المركزي للأسواق، كلما وفرت التقنيات الرقمية المعلومات عنها على نطاق واسع، وكلما ازدادت الشفافية. وبينما تتسارع التقنية في تقدمها، ستكون هناك فرص وفيرة لإعادة ضبط مستوى الملاعب التي تتنافس فيها الأعمال، على نحو يُبرز الفوارق الجلية بين الرأسمالية الفعلية؛ حيث تثمر المنافسة بين الشركات مكاسب عظيمة للناس، وبين رأسمالية المحاسيب التي يجتهد فيها أصحاب المناصب وحلفاؤهم من أجل تجنب العراقيل.

تستلزم المرونة أيضًا توفير معطيات أفضل، من أجل التأكد من أن للمساعي التجريبية آثارًا مرغوبة. ومن سوء الحظ أن الكونجرس الأمريكي خفض موازنة مكتب إحصائيات العمل بنسبة 11% بالحسابات الحقيقية بين عامي 2010 و2015. لكن ثمة تطورًا مشجعًا هو مبادرة الرئيس أوباما بشأن الحكومة المفتوحة؛ حيث وقع أوباما في عام 2013 أمرًا تنفيذيًّا يجعل "الإعداد التلقائي الجديد للمعلومات الحكومية" هو أن تكون علنية وقابلة للقراءة الآلية. وكلما ازدادت درجة إتاحة المعطيات، فستزداد فرص تحسين مستوى السياسات من خلال تشارك المعلومات. 

إعادة تعريف التوظيف:

العلاقة بين أرباب العمل وبين الناس الذين يعملون لديهم هي منطقة أخرى تواجه فيها الولايات المتحدة الاختيار ما بين الجمود والمرونة؛ حيث يجب على الشركات تعيين عمالها إما بصفة موظفين، وإما بصفة متعاقدين. ويؤثر ذلك التصنيف على أحقية العمال بالدخل عن العمل الإضافي، والتعويض عن الإصابة في محل العمل، وتنظيم أنفسهم في اتحادات.

وقد شهد العقد الماضي زيادة مهمة في صيغ متنوعة من التعاقد. ووفقًا للورانس كاتس وألان كروجر فإن نسبة العمال الأمريكيين في "الترتيبات البديلة" التي تشمل: التوظيف المؤقت، والتعاقد، والعمل حسب الطلب ارتفعت من 10% عام 2005 إلى 16% عام 2015. وينبغي أن يتسارع ذلك الاتجاه مع النمو المتواصل لـ"الاقتصاد حسب الطلب"، الذي أبرزته شركتا "أوبر" و"ليفت" Lyft وأسواق العمل الحر؛ مثل: "تاسك رابيت" TaskRabbit و"أب ورك" UpWork. وعلى الرغم من أن نسبة 0.4 فقط من قوة العمل الأمريكية (نحو 600 ألف إنسان) يكسبون دخلهم الأساسي من هذه الوسائط الرقمية، فمن المتوقع أن ينمو هذا الرقم سريعًا.

في ضوء هذه التحولات، اقترح كروجر وسيث هاريس، نائب وزير العمل السابق، ابتداع تسمية جديدة، وهي "العامل المستقل". والأغلب أن هؤلاء العمال لن يكونوا مستحقين لأجر على الوقت الإضافي، أو تأمين ضد البطالة، ولكنهم سيتمتعون بحماية التشريعات الاتحادية المضادة للتمييز، وبحق تنظيم أنفسهم، وسيكف أرباب عملهم عن دفع الضرائب، وسيقدمون إسهامات ضريبية على قوائم الأجور والرواتب. مثل هذه المقترحات تستحق التفكير الجاد، لا سيما في كيفية تطبيقها من دون أن تزيد مصاعب اتخاذ القرارات بشأن تصنيف العمالة.

ثمة ميل إلى حماية أنواع الوظائف ذات الرواتب بدوام كامل التي أتاحت زيادة الطبقة الوسطى المزدهرة والعريضة في الولايات المتحدة. لكن ينبغي على صانعي السياسات أن ينتبهوا إلى أمرين. أولا، ليس الجميع يريدون وظيفة كلاسيكية من وظائف العصر الصناعي. ثانيًا، ليس بالإمكان استرجاع تنظيم الطبقة الوسطى لمرحلة ما بعد الحرب. محاولات فعل ذلك -بتصعيب استئجار الشركات لغير الموظفين في وظائف ذات رواتب بدوام كامل مثلا- ستتسبب فقط في مجتمع محمي من أصحاب الوظائف يتقلص بمرور الزمن، ومجموعة متنامية على الدوام مستبعدة من المشاركة.

المبدأ الثاني- التشجيع المباشر للعمل:

تسود النقاش في الوقت الراهن مسألة توفير دخل أساسي عام، تمنحه الحكومة لكل المواطنين بصرف النظر عن حاجتهم. تمتعت هذه الفكرة بجاذبية في الماضي، وفي دول أوروبية مثل سويسرا حاليًّا، وستزداد أهميتها في المستقبل، لأن عددًا هائلا من الناس سيعجزون عن كسب قوت يومهم من عملهم. لكن تقديم دخل أساسي، مهما كان صغيرًا، إلى مجتمع سكاني بسعة الولايات المتحدة سيكون مكلفًا بدرجة تعجيزية، وسيَلْتهم معظم متحصلات الضرائب الاتحادية، ولن يكون فعالا في ظل المستويات الحالية للدخل القومي، ولا يمكن تخيل فائدته في تخفيف البطالة. لذا فالأفضل هو التركيز على دعم العمل.

العودة إلى العمل:

لا توجد حاجة إلى سياسات من أجل اقتصاد بلا وظائف بعد؛ لسبب بسيط، وهو أن حقبة البطالة لم تحل بعد. والدراسات التي تنبأت بذلك إنما تعتمد على أحكام ذاتية بشأن حساسية الوظائف للأتمتة، ولم تحدد زمنًا لحدوث تنبؤاتها، كما لا توجد أي أمارة على أن الولايات المتحدة تقترب في الوقت الراهن من الحد الأقصى للتوظيف. فمنذ نهاية الكساد في يوليو 2009، وحتى مارس 2016، شهدت البلاد مكاسب صافية تقدر بأكثر من 160 ألف وظيفة شهريًّا في المتوسط. وخلال تلك الفترة انخفض معدل البطالة من 10% إلى 5%.

وعلى الرغم من هذا النمو القوي والمستمر في الوظائف، فثمة أمارات واضحة على أن هذا تعافٍ نموذجي، وأن جوانب الضعف الملموسة باقية في سوق العمل. فمعدل البطالة المعلن المنخفض يرجع جزئيًّا إلى احتسابه بناءً على عدد الناس المشاركين فعليًّا في القوة العاملة (أي العاملين أو الباحثين عن عمل)، وقد انخفضت مشاركة القوة العاملة بشدة خلال الكساد، وتعافت ببطء شديد فيما بعد. ولم تتجاوز المشاركة في القوة العامة منذ عام 2011 نسبة 82% من الأمريكيين في سن العمل، وهو مستوى لم يُشهد قبل أكثر من ثلاثين عامًا، قبل خروج النساء إلى العمل بأعداد كبيرة. ولا عجب أن نمو الأجور ظل هزيلا أيضًا منذ نهاية الكساد.

هذه المشاركة المتراجعة في القوة العاملة هي أمر مربك، ليس فقط لأن العمل يوفر دخلا، ولكن لأنه يمنح الناس معنى أيضًا. وقد وثَّقت دراسات عديدة النتائج المزعجة لتراجع فرص العمل أمام الأمريكيين الأقل تعليمًا في السنوات الأخيرة، فيما يتعلق بالتماسك الأسري، والجريمة، والانتحار، والإدمان، والأمراض المزمنة.

كسب المال:

بالنظر إلى أهمية العمل للأفراد والأسر والمجتمعات، ينبغي على القرارات السياسية أن تشجع التوظيف. وعلى النقيض من الدخل الأساسي العام، تحقق دعومات الأجور هذه الهدف. يقدم ائتمان ضريبة الدخل المكتسب في الولايات المتحدة، المدار من خلال عوائد الضرائب السنوية، أرباحًا سنوية بحد أقصى مقداره 6,242 دولارات للأسرة ذات الأطفال الثلاثة أو أكثر، وبينما سيُمنح الدخل السنوي الأساسي على نحو غير مشروط، فإن ائتمان ضريبة الدخل المكتسب متاح فقط لمن يحصلون على دخول من الأجور، ولذا فهو يقدم حافزًا مباشرًا على العمل.

وعلى الرغم من الزخم الشعبي الذي تتمتع به مطالب زيادة الحد الأدنى للأجور، وتجاوب بعض الولايات معها، فمن المحتمل أن ينعكس ذلك سلبيًّا على التوظيف. فحينما يصبح العمل أكثر كلفة، تميل الشركات إلى استعمال القليل منه، مع تساوي الظروف الأخرى. وثمة سبب للاعتقاد بأن زيادات الحد الأدنى للأجور بنسبة 50% أو أكثر، حتى لو طبقت تدريجيًّا، ستضيق من فرص الوظائف أمام العمال الأقل ثراء والعمال الأقل مهارة، وهي نتيجة غير مرغوبة، خصوصًا في وقت يتسم بانخفاض مشاركة القوة العاملة.

ولذا فإن التوليفة الآمَن للسياسات هي وضع حد أدنى معتدل للأجور، مع التوسع في ائتمان ضريبة الدخل المكتسب، أو أي دعم أجري مماثل. فكما ينبغي تشجيع الأفراد على البحث عن عمل، ينبغي تمامًا تشجيع أرباب العمل على توفير ذلك العمل، والزيادة الكبيرة في الحد الأدنى للأجور تُعطي تأثيرًا عكسيًّا.

قوة الناس:

ستثبت الآلات متزايدة الذكاء أنها ذات آثار تحويلية، وستخلق فرصًا لزيادة هائلة في الإنتاجية والثروة، لكنها ستقضي على سوق العمل. ولمواجهة ذلك، فإن الاستراتيجية المثلى لا تكمن في محاولة إبطاء سرعة التقنية، ولكن في المكافحة من أجل المرونة؛ ليتمكن الناس والمنظمات والمعاهد من التعلم والنمو بطرائقهم في مستقبل معافى. علاوة على ذلك، وبالنظر إلى أن أهمية العمل تتجاوز الدخل الذي يأتي به، ينبغي أن تشجع السياسة العمل، بدلا من افتراض أننا نعيش في عالم لا يحتاج إليه. وبينما يعد صعود الحواسيب الذكية بثروة مادية عظيمة، وصحة أفضل، ومنافع أخرى لا يمكن تجاهلها؛ فإن تشارك الثروة على نحو أوسع ليس أمرًا تلقائيًّا أو حتميًّا، وسيكون على البشر إنجازه في عصر الآلات الجديد.

(*) أتمتة: مصطلح مستحدث يطلق على كل شيء يعمل ذاتيًّا بدون تدخل بشري.

عرض: جلال الدين عز الدين علي - باحث في الشؤون السياسية.

المصدر:

Andrew McAfee and Erik Brynjolfsson, “Human Work in the Robotic Future: Policy for the Age of Automation”, Foreign Affairs, July/August 2016 (139-150).

مقالات أخرى
التعليقات
لا توجد تعليقات


© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>