الدوريات - قضايا استراتيجية
هل نحن قادرون على تحقيق السعادة في العصر الرقمي ؟

: 1753
الاربعاء,26 يونيو 2019 - 03:28 م
د.عادل عبد الصادق*
مجلة الديموقراطية - مؤسسه الاهرام ، العدد 73 يناير 2019 ،ص ص 113-120

أحدثت الثورة العلمية والتكنولوجية تحولات مادية هائلة سرعان ما احدثت بدورها ثورة اخرى على المستوي الكيفي والنوعي لجودة حياة الانسان،وبرزت على اثر ذلك اشباعات وانماط وتطبيقات جديدة تتوافق مع رغبة كل فرد وكل جماعة على نحو اكثر اتساعا وتنوعا للتأثير في السمع والبصر والفؤاد ،وانعكاس ذلك المزدوج على الصحة النفسية والعقلية

هل نحن قادرون على تحقيق السعادة في العصر الرقمي ؟
اضغط للتكبير
،وليطرح معه العديد من التساؤلات حول  طبيعة العلاقة بين التكنولوجيا والسعادة ؟ وما هو التغير الذي أحدثه  في مفهوم   السعادة ؟وهل هناك علاقة بين الانترنت وهرم "ماسلو" للاحتياجات الإنسانية ؟وما هي منصات وتطبيقات السعادة الجديدة ؟ وهل يمكن قياس السعادة في العصر الرقمي ؟ وكيف يمكن الحافظ عليها ،وكيفية تحقيق التوازن ما بين الاندماج في هذا العالم والحفاظ على إرادة الإنسان الحرة؟
مفهوم جديدة للسعادة في العصر الرقمي .    
  ترتبط الحالة الشعورية للناس بما يتعرضون له من أحداث وأفعال وافكار،وينعكس ذلك على ثقافتهم ونمط تفكيرهم ،ومن ثم فان تلك الحالة النفسية عرضة للتغيير المستمر وفقا للمؤثرات الداخلية والخارجية وتوظيفها  في الاستجابة للتغيرات في بيئتهم المحيطه.[1]
وتتعدد التعريفات وتتباين الآراء حول مفهوم السعادة ، وكيفيتها وفق طبيعة الزمان والمكان والثقافات المتعددة ،بل طرق معالجتها ما بين المداخل النفسية والفلسفية .
فـ" السعادة"  لا حدود لها لانها ترتبط بالامال والطموح،لذا انه سيظل الجميع يبحثون عنها دون سقف ، لاشباع الرغبات المادية سواء اكانت شهوانية او غريزية أو بالبحث عن الامور المعنوية والروحانية .
 و تبنى  "ابرهام ماسلو"  Abraham Maslow  نظريته  "للاحتياجات الانسانية" و التي جعلها في شكل هرمي يضم من القاعدة الى القمة الحاجات الفسيولوجية ثم  تقدير الذات والرغبات الروحية في القمة.[2]ولاشك انه في ظل الثورة العلمية والتكنولوجية قد تغيرت وتيرة تلك الاحتياجات وطرق الحصول عليها واولوياتها ،ولطالما كان الهدف الاسمي للتكنولوجيا هو العمل على  اسعاد البشريه ، والتغلب على الصعاب والتحديات  سواء عبر توفير منجزات مادية ،او عبر توفير تطبيقات جديدة ذات طبيعة معنوية أو روحية ،وفي إطار استثمار دور اللذة والمنفعة والألم في تحريك النفس البشرية[3].
وترادف ذلك التطور في بروز  ثلاثة ابعاد جديدة تربط بين السعادة والتكنولوجيا ، البعد الاول، يتعلق بتغيير القيم المحفزة من خلال القدرة على اتخاذ القرار او رد الفعل للحصول على السعادة ، والبعد الثاني، يتعلق  بالرؤية التي ترتبط بدور الشركات التكنولوجية المقدمة للخدمات للملايين من الناس عبر العالم ، والبعد الثالث ،يتعلق بالفلسفة التي ترتبط بان الثورة العلمية والتكنولوجية أتاحت الفرصة للسعادة لكل شخص يمتلك أساسيات التواصل . Image result for digital happiness
وقدمت تلك الابعاد لظهور ما يعرف بـ"السعادة الرقمية " Digital Happiness" ، والتي تعبر عن تلك  الدرجة التي ينظر بها الشخص إلى التكنولوجيا الرقمية على اساس أنها تساهم بشكل إيجابي في تعزيز المشاعر الإيجابية ، والمشاركة ، والعلاقات ، والمعاني ، والإنجازات، وتعزيز الرفاهية الفردية والاجتماعية.".
وجاء هذا التحول في ظل  ارتباط الملايين من البشر في عالمنا المعاصر بالتطبيقات التكنولوجية سواء كمصدر معرفي او مصدر للترفيه والتسلية او البحث عن الذات باعتبارها فرصة لتكوين الثروة وتكوين رأس المال المادي والبشري .
والذين اصبحوا ملتصقين بتطبيقات العصر الرقمي على النحو الذي جعل بعض العلماء يضعون الاحساس بالاتصال مع  الانترنت في قاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية ،ومبعث ذلك ان فقد الاتصال يؤدي الى الإحساس بالنقص النفسي والمادي للشخص ، وهو الامر الذي تطور باعتبار الحق في الاتصال بالانترنت هو حق من حقوق الانسان ، ونشا ما بات يعرف بحقوق الانسان الرقمية Digital Human Rights'  " وتم تضمين ذلك بالمواثيق الدولية وعدد من الدساتير المعتمدة في دول العالم
ومن ثم أصبحت رؤية ذلك التطور وانعكاسه على السعادة ليس مرتبطا فقط بالدور الذي يلعبه في إحساس الشخص  بالرضا وطمأنينة النفس, وتحقيق الذات, والشعور بالبهجة والاستمتاع واللذة,بل بمدى كون تلك السعادة طويلة او قصيرة الاجل ،ومدى احترام الارادة الحرة المستقلة للفرد في القيام بالسلوك، واحساسة بالامان واحترام خصوصيته في ذلك العالم الرقمي ،ودرجة ارتباط الاحساس بالسعادة بالوضع في العالم الرقمي او بالمزج ما بين الرقمي والواقعي.[4]
وذلك بافتراض حيادية تلك التطبيقات الرقمية فان ما يعمل على تكوين نمط الاستخدام ذاك هو ثقافة المستخدم وحالته النفسية او المزاجية الى جانب سياقة الاجتماعي الذي يعيش فيه وهو ما يشكل في الاخير "الرغبه"، ومن جهة اخري تلعب التطبيقات  دور "المحفز" و"الجاذب" مع خصائصها المتميزة ،
ثانيا ، التكنولوجيا والمنصات الجديدة للسعادة.
 بدأت رحلة تأثير التكنولوجيا في سعادة الانسان منذ وجودة على الأرض واكتشافه للنار عبر ضرب حجرين معا ،وبذلك قد تغلب على الحيوانات المفترسة واستطاع ان يحسن جودة حياته باختراع الطهي ،وحمايتة من البرد القارص ،بل واستخدمت كذلك اعلانا للحرب.
وبدأت رحلة الانسان بتوظيف العلم والتكنولوجيا للتغلب على عقبات الجغرافيا وطول المسافة وفي تطوير نمط معيشته ، وجاء ذلك عبر صيروره من التطور بالانتقال من الفحم إلى المحرك البخاري في القرن الثامن عشر فيما عرف بالثورة الصناعية الاولي ،والثانية باختراع الكهرباء  في نهاية القرن التاسع عشر ،والثالثة، بإطلاق عملية تحويل حركة الإنتاج الى "الآلية" ، والتطور في تكنولوجيا الكمبيوتر والانترنت، في ستينات من القرن العشرين.وجاءت الثورة الصناعية الرابعة" بعملية الدمج بين العلوم الفيزيائية أو المادية بالأنظمة الرقمية والبيولوجية،وهي مرحلة شهدت  عمليات التصنيع عبر آلات يتم التحكم فيها الكترونيا وآلات ذكية متصلة بالانترنت.[5]
 وبرزت تطبيقات عديده في كافة مجالات الحياة والعمل ، ومنها تطبيقات تتعلق بالصحة والجمال والادوية والجينات الوراثية ومكافحة الامراض والاطراف الصناعية ،وتطبيقات تتعلق بالذكاء الاصطناعي والروبوتات ،وتطبيقات تتعلق بالتواصل مع الاخرين والشبكات، وتطبيقات تتعلق بالترفيه والتسلية والاعلام،وتطبيقات تتعلق بالرفاهية في السكن والانتقال والسفر وتطبيقات اخري تتعلق بالاختراعات العلمية وغزو الفضاء وغيرها ،وهي تطورات مثلت نقلة هائلة للحضارة الانسانية وتحقيق الرخاء والسعادة للبشرية وبخاصة التطبيقات ذات الطبيعة الرقمية مثل ،شبكات التواصل الاجتماعي ،الالعاب الالكترونية ، والتسوق الالكتروني ، والمصادر المفتوحة للمعرفة ، السينما والترفيه ،والموسيقي ، وبناء القدرات والتدريب والتعليم المستمر عبر الانترنت ، اتاحة الفرصة للتعاضد الانساني في الازمات والكوارث ، الحصول على فرص عمل ودخل عابر الحدود ، والتعرف على الثقافات المختلفة ، اقامة التجمعات الافتراضية ،واتاحة ادوات سهلة للراي والتعبير ، ورخص التكلفة وسهولة الاستخدام والانتشار ، انتقال الرموز الثقافية والروحية وغير ذلك الكثير.. وهو الامر الذي يكشف عن ، اربع متغيرات رئيسية ترتبط بعلاقة التكنولوجيا بالسعادة ، وهي ، اولا ، القدرة على التحديد "Identify.لشكل العلاقات و الشبكات والرغبات والاحتياجات. وثانيا ، هي القدرة على الاتصال. Connect"حيث ان الاتصال بالاخرين يجعل الناس سعداء مع تقوية علاقاتهم  الاجتماعية.وثالثا ، متغير اخر يرتبط بقدرة التكنولوجيا على اعطاء الفرصة للشخص في "التتبع " "Track:، وذلك سواء لنشاطه الرقمي او حتى حالته الصحية او طبيعة علاقاته الاجتماعية او ردود الافعال على حركته ،وهو ما ينعكس ايجابيا على رفاهيته وصحته وسلوكة الاجتماعي ورابعا، يتعلق بقدرة التكنولوجيا  على ارساء النظام " Order " والترتيب للجداول الزمنية والمسؤوليات والاهتمامات والمهام والانشطه ووضع الاجندة اليومية  .
 
ثالثا ،  السعادة بين الزيادة والنقصان  في العصر الرقمي
  نمت عدة اتجاهات في تحليل وتفسير علاقة التكنولوجيا بالسعادة ، فهناك من يرى انها اكبر مزعج للسعادة في تاريخ البشرية ، وهناك من يرى انها لا تعبر سوى عن كونها عملية زيادة  القدرات المساهمة في نمو الاتجاه الايجابي نحو السعادة.وهناك اتجاه ثالث  يرى ان عملية الحكم على دور التكنولوجيا في السعادة يتوقف بالاساس على استخدام الفرد .
 ومن ثم فانها لا تقوم بالضرورة باشباع رغبات الافراد ،بل تقوم كذلك بتشكيل الميول والرغبات لدى الملايين من المستخدمين.وهو ما يمثل تحدي مواجهة  الاستخدامات السلبية،وتعزيز الفرص الايجابية التي توفرها، وتحقيق التوازن بين التفاعل الانساني وبين التفاعلات الالكترونية والحد من الاثار الضارة للصحة النفسية للفرد وعلاقته مع الآخرين.
وفي هذا السياق قام "راندال كولينز"استاذ علم الاجتماع  بجامعة بنسلفانيا ، بإجراء أبحاث على الشبكات الاجتماعية ومدي تاثيرها على  قوة الروابط بين الناس.وخلص الى أن أعضاء الفريق عندما يتفاعلون جسديا من خلال العادات ولغة الجسد ، والإشارات الاجتماعية ، يطورون روابط أقوى مع بعضهم البعض. ويتم إنتاج تفاعلات بيولوجية تسمى هرمونات السعادة في المخ ومنها  هرمون "الأوكسيتوسين"[6]،وهو مسئول عن تعزيز العاطفة.
ومن ثم فان الوجود الجسدي  هو وسيط مثالي لنقل وتطوير مشاعر التضامن وإطلاق الطاقة العاطفية. ويؤثر إيجابيا بالشعور بالسعادة ،وهو ما يعلي من الروح الجماعية على النزعة الفردية[7] .
ومواجهة تركيز التفاعل الالكتروني على الكم وليس الكيف وعلى التفاعل اللحظي وليس الدائم وعلى جذب الانتباه وليس تحريك العقل ، وعلى الاستقطاب وليس الانفتاح ،وعلى الخيال في مقابل الواقع ،والعضوية في تجمع افتراضي بعيدا عن التجماعات المادية، وتغيير مفاهيم الصداقة والحب والتعاضد الاجتماعي ،وذلك على الرغم من ان وسائل التعبئة الجماعية عبر الانترنت مثل الشبكات الاجتماعية ساهمت في جمع التبرعات و مواجهة الكوارث الطبيعية والانسانية وتعزيز العمل الخيري والتطوعي الذي يجلب السعادة ولكنها ارتبطت بالاساس بالانتقال من نمط النشاط الالكتروني الى التفاعلات على الارض او التوازي بينمها.
 وهو ما يجعل منه تفاعلا اجتماعيا مستداما ، وتحويلة الى قوة ايجابية تجلب السعادة  في مقابل مخاطر الشعور بالعزلة والاكتئاب ،اوالشعور بضياع الوقت او المال دون جدوي.
واثرت التطبييقات الرقمية سلبا في الذاكرة البشرية ، وتراجع جودة الانتباه والتركيز و مستوى الصحة العقلية بفقدان الصلة بالمخ ، وتغير طبيعة العلاقة مع الآخرين، وتراجع القدرات  الطبيعة على التواصل،
ومن جهة اخري برزت عمليات التقدم في رقابة السلوك الإنساني سواء بتتبع نشاط المستخدم  او تحوله إلى مجرد محتوى يتم بيعه وتوظيفه على نحو يخالف إرادته وخضوعه إلى سيل من الإعلانات التي يتم إجباره على رؤيتها ،والتعرض للتجسس وانتهاك الخصوصية .
وتهديد تطبيقات الذكاء الاصطناعي  باختفاء50% من الوظائف ، والاتجاه الى زرع شرائح الكترونية تحت الجلد تكون بديلا للهوية الرقمية ، والتطور في مجال علوم تحرير الجينات الوراثية والتي ستعمل على الانتقال الى داخل الانسان لمعرفة ماذا يريد وإعادة هندسته ،الى جانب التاثير علي سلوكة الخارجي عبر البيانات الرقمية التي يتم التحكم بها وبثها من اجل التأثير في العقل وفي الوعي كذلك .

رابعا ، هل يمكن قياس السعادة في العصر الرقمي ؟
بدأت عملية الاهتمام بصناعات وتطبيقات السعادة  من جانب الشركات المنتجة للمحتوى الرقمي الترفيهي من اجل الحصول على مكاسب اتساع السوق وجني الارباح ، فيما سعت عدد من الحكومات الى الاهتمام بسعادة مواطنيها بغية تحقيقها كهدف انساني لازم للتنمية، وكانت دولة "بوتان" اول من قام برصد حالة السعادة [8]،وتم اصدار تقرير دولي حول السعادة واخر عن الصحة العقلية.
 وجاءت امكانية "قياس "سعادة الانسان عبر رصد التراكم الكمي من النشاط الالكتروني  عبر المنصات الرقمية مثل التواصل الاجتماعي او استهلاك المحتوى الرقمي او الشراء وحجم الانفاق على الاجهزة مثل الهاتف المحمول،والذي اصبح لايفارق صاحبة الا عند النوم و فصل الطاقة،ويتم النظر الية اكثر من أي شيئ أخر ،ومتوسط قضاء الوقت على الفيس بوك ، ومؤشرات ترتبط بعدد التعليقات او الاعجابات او المشاهدات او المشاركات او الاضافات او استهلاك الانترنت . فينظر  الانسان في هاتفة بمتوسط 560 مرة يوميا وهو لا يكشف فقط حجم التاثير بل تحكم الهاتف ايضا في حركة ونشاط الانسان . [9]
وطور عدد من العلماء تقنيات وتطبيقات لقياس السعادة باستخدام أجهزة استشعار تقيس مستوى الحركة والصوت، واستخدام  المحفزات لرفع مستويات السعادة في مكان العمل لزيادة الإنتاجية بنسبة قد تصل إلى 30%. والانتقال من أسلوب عمل مهتم بالمحافظة على قواعد العمل للاهتمام بالدرجة الأولى بتحقيق النتائج.
وظهر ما اطلق علية بتكنولوجيا الصحة النفسية وبخاصة مع ظهور امراض نفسية جديدة مثل الادمان الرقمي والنيموفوبيا والعزلة والمخدرات الرقمية وغيرها بما يفتح الباب لمواجهة ذلك عبر تقنيات معالجة الاكتئاب وتحسين الصحة النفسية والذهنية .[10]
واستخدام تطبيقات رقمية لمساعدة المستخدمين على تحسين معدلات السعادة وجودة الحياة، وتعزيز المحافظة على الاهتمام والتفكير الإيجابي والسماح لهم بمتابعه  التقدم  والتواصل مع الاخرين.
ويتم استخدام بيانات التواصل الاجتماعي التي تتسم بالضخامة في قياس ورصد السعادة، من خلال تحليل اللغه والمعاني وتحديد أنماط السلوك ومستويات الرضا والصحة العامه وكشف حالات التباين بين المجتمعات.
وعلى الرغم من التحليل الكمي الا انه يظل قاصرا لقياس مدى القدرة على تحويل ذلك النشاط الرقمي الى سعادة حقيقة على ارض الواقع او الكشف عن احادية الشخصية وتماسكها عبر الواقع والافتراض،بالاضافة الى ان عملية  تحويل المشاعر الإنسانية الى مجرد  شكل الكتروني وتحويلها إلى مجرد تغييرات كمية لاتمثل بديلا عن التفاعل الانساني،وبخاصة ان النشاط الالكتروني قد يعمل على التفريغ للطاقة دون إن يتم تحويله إلى مشاركة فعلية.

 
خامسا ، كيف نحافظ على سعادتنا في العصر الرقمي ؟
 
لاشك ان التكنولوجيا ليس لها علاقة في حد ذاتها بالسعادة بقدر ما يرتبط الامر بكيفية استخدام تلك التكنولوجيا ،والتي  ما هي الا وسيلة ، ومن ثم فان هناك عدد من المؤثرات  في نشاط السعادة في العصر الرقمي ، وهي دور الاتصال مقابل الانفصال ، والاخذ مقابل العطاء ، والعمق مقابل السطحية ،والفعل الايجابي مقابل السلبي،
وتثير السعادة الرقمية سبع مفارقاتالاولى مفارقة "اجتماعية" تتعلق بانه على الرغم من ان البيئة الرقمية اتاحت القدرة على  التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء ولكن مازال في الامكان اقامة صداقات مع اخرين خارج هذا العالم .والمفارقة الثانية ترتبط بـ" الاختيار"ففي حين اصبح للفرد القدرة على اطلاق ارادته الحرة في القيام بالسلوك والتسوق الا ان ذلك الشخص قد خضغ بالفعل الى مؤثرات شكلت اختياراته ،ومدى قدرة المال على شراء السعادة عبر الاستهلاك. وتتعلق المفارقة الثالثة بمفارقة "المعني" فمع صعود الذكاء الاصطناعي في التحليل والوظائف في مقابل الذكاء البشري يؤثر على التاثير على ذاتية ومعنى وجود الانسان وسعادته.والمفارقة الربعة "الانتاج "حيث ارتباطه بالاستهلاك ومدى علاقة ذلك بدور "الزبون" في تلبيه رغاباته مقابل قيام ارباب العمل والانتاج بالتسويق لتلك المنتجات .وتعد "المعرفة "هي المفارقة الخامسة بالرغم من تحول الإنترنت كمصدر هائل المعلومات المجانية الا انها لا تتحول بالضرورة الى معرفة وابداع.
والمفارقة  السادسة هي "الحقيقة" بالرغم من توافر ادوات جديدة لتقصي الحقيقة مثل صور الاقمار الصناعية ،والمعرفة مفتوحة المصدر ، ووسائل التواصل الاجتماعي  الا ان تلك التقنية قد تستخدم كذلك في التزييف وتغييب الوعي وتقدم ادلة وأخبار مزيفة فيما يطلق عليه بعصر ما "مجتمع ما بعد الحقيقة" ،وتتعلق المفارقة  السابعة بـ" الألفة" بالرغم من ان التكنولوجيا الرقمية التي تحقق لك مكاسب وبهجة وسعادة الا انها قد تتحول الى مصدر للقلق والخوف ونشر التشاؤم والخوف .
وتمثل تلك المفارقات ركيزة اساسية في طريقة فهمنا لتلك المتغيرات ومواجهة عناصر الخلل ،وهو امر يتطلب تحقيق التوافق ما بين الاندماج في ذلك العالم الرقمي والحفاظ على ذاتية الانسان ووعية الاجتماعي ، وان السعادة وتحقيقها لا يجب ان تنفصل في العامل المادي والافتراضي ،وبخاصة ان العالم بحاجة اليها في ظل الصعوبات والتحديات والتي من شأنها ان تخلق روحا ايجابية لحلها . [13]
 ومن ثم يجب علينا ان نعيد كتابة قواعد و آداب للسلوك عبر المنصات الرقمية ، واعادة التفكير في كيفية تعبئة الناس وتحفيزهم ، ومعرفة الحد الفاصل بين حدود المستخدم كانسان وحدود التكنولوجيا كمادة او وسيلة والانتباه الى اهمية الخروج من السيطرة الصامته التي تمارس من قبل التطبيقات الالكترونية او الشركات المشغله ، او الحملات الموجه ، وبخاصة ان هناك علاقة  بين ممارسة السلطة والمعرفة وفق "ميشيل فوكو" وهو ما يتطلب اعادة الاعتبار للاحساس بالذات. [14]:
وهو ما يتطلب ان يكون هناك وعي بتحسين الرفاهية والسعادة عبر التكنولوجيا والتي اصبحت  جزء مهم من حياتنا.وفي نفس الوقت عدم السماح لها بالتغلل في كيفيات العلاقات الانسانية ،وهو الامر الذي يؤدي الى الشعور بالتعاسة والوحدة والانعزالية في زمن سيطرت علية فكرة التشبيك والقرية الكونية.
وعلى الحكومات ان تعمل على تحسين الشروط اللازمة لجعل الناس اكثر سعادة وذلك من خلال تحسين صحة الأفراد ورفاهيتهم وتقلل العزلة وزيادة النشاط التطوعي والمجتمعي وزيادة النشاط البدني وخفض معدلات البطالة وإشراك الناس في اتخاذ القرار. [15]
وأهمية التخلص من المعتقدات الخاطئة التي ترسخت من قبيل ان حل المشكلات الناتجة عن التكنولوجيا هو في مزيد من التكنولوجيا ،وان التقدم التكنولوجي مرادف للرقي الاجتماعي ،وان التقدم التكنولوجي  "متغيرا مستقلا"،وان المجتمع "متغيرا تابعا"،ومن ثم  يجب عدم النظر إلى التكنولوجيا أو ما يصاحبها من مشكلات باعتبارها قوى خارجيّة لا يمكن للإنسان التحكم بها، بل ان الهدف منها هو جعل العالم اكثر بشرية وتحرير الاراده المستقلة للانسان وليس بدخوله عصر عبودية جديد يفقد فية حريته وسعادته وصلته بالطبيعة وبالانسان الاخر.
محددات تطبيق التكنولوجيا الايجابية في نشأة وتدمير السعادة الرقمية
المحدد
المحفز
المثبط
الارادة الذاتية
فهم التصورات والقدرة على التحكم في الاشياء مثل الانفاق وباقي المنصات المختلفة المقدمة للخدمات
استخدام الخوارزميات في تقديم الخيارات دون رغبة المستخدم عبر الاعلانات.
الجمود نتيجة كثرة الخيارات والبدائل المتاحة .
التعاطف
التأكد من النظر الى الناس على أنهم بشر ، وليس كفاعلين بلا حياة في هذه البينة الرقمية
السماح لغابة العاطفة على الانفعال وعلى العقل
الكفاءة
مواجهة الصعوبات التي تواجه المستخدمين
الاعتقاد بان هناك مقاس واحد يناسب الجميع.
والاعتقاد بقدسية الحلول والتمسك بها
الارتباط
القدرة على التحكم في الإخطارات والإشعارات
استخدام المنصات المزعجة التي تسعى الى جذب انتباه المستخدم باستمرار
المضمون
ربط الأهداف في الوسائط الرقمية بالأهداف "في الحياة الواقعية" ،
مطالبة المستخدمين بالقيام بإجراءات دون داعي او مبرر
القرابه
السماح للمستخدمين بإنشاء دوائر مغلقة لتركيز القيمة وتقليل الضوضاء
تناثر المعلومات دون إحساس بالأولوية
 
* خبير بمركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية -مدير مشروع المركز العربي لابحاث الفضاء الالكتروني 
 

[1]  Anna Wierzbicka, The “History of Emotions” and the Future of Emotion Research, SAGE Publications and The International Society for Research on Emotion,
 Emotion Review Vol. 2, No. 3 (July 2010) 269–273
[2]  Saul McLeod, Maslow's Hierarchy of Needs, simplypsychology.org,visited in 12/12/2018
[3] تعريف ارسطو لها بانها " معنى وهدف وغاية الحياة". بينما يعرفها اينشتاين  " لو أردت أن تكون سعيداً ، قم بربطها بهدف وليس بشخص أو بشيء".، بينما عرفها تولستوي فيري أن السعادة هي أن تملك ثلاثة أشياء شيء تعمله وشيء تحبه وشيء تطمح إليه". ويري المهاتما غاندي أن السعادة هي أن يكون ما تفكر فيه وما تقوله وما تفعله منسجما"،
[4] د. عادل عبد الصادق ،ما بعد الرقمية: البحث عن حتمية التوازن بين الواقع والافتراض،مقالات، المركز العربي لابحاث الفضاء الالكتروني ، 12 ابريل 2015 ، ، https://goo.gl/gfQLYe، اخر زيارة 7/12/2018
 
[5]Bernard Marr The 4th Industrial Revolution Is Here - Are You Ready?, Forbes, Aug 13, 2018, https://goo.gl/jVgPzw, visited 13/12/2018.
[6] وتوجد هناك هرمونات اخرى للسعادة ، مثل هرمون، السيروتونين،الثقة بالنفس والإنتماء، هرومن الدوبامين" التحفيز والنجاح" وهرمون الأندروفين، كمضاد الألم". وهرمون السيروتونين للتحكم فى المزاج 
[7] فعلي سبيل المثال كانت الالعاب ودور السينما والترفيه كانت تتم بشكل جماعي بينما اصبحت في ظل العصر الرقمي تتم بشكل فردي وانعزالي عن الجماعه .
[8] دولة تقع في جنوب اسيا ذات نظام ملكي دستوري
[9]A nna Akbari, Personal Guide to Digital Happiness,Tecnology Tthe Atlantic, Nov 7, 2011, https://goo.gl/EzFLPY, 14/12/2018
[10] هناك تطبيقات للسعادة مثل "هابييفاي" و اخر يسمى"happytech" وهو عبارة عن جهاز صغير يمكن ارتداؤه على حزام حمالة الصدر أو حزام الخصر لمراقبة تنفسك ، وبالتالي خفض ضغط الدم وتقليل التوتر وزيادة تدفق الاندورفين في مجرى الدم. يستخدم Spire أنماط تنفسك لمعرفة ما إذا كنت متوتراً ، أو هادئاً ، أو مركّزاً ، ويوفر إخطارات لطيفة لإرشادك عندما تكون في أشد الحاجة إليها.
[11] مؤتمر الحوار العالمي للسعادة، ضمن فعاليات الدورة السادسة للقمة العالمية للحكومات، الدورة الثانية ، محور "التطورات التكنولوجية في السعادة وجودة الحياة"، دبي ،الامارات ، 11-13  فبراير 2018
[12] Botella C., G. Riva, A. Gaggioli, B.K. Wiederhold, M. Alcaniz & R.M. Baños, “The Present and Future of Positive Technologies”,Cyberpsychology, Behavior, and Social Networking, February 2012, pp. 78-84
[13] أعلن الخبير الهندي "إدوارد كاسترونوفا"  ظهور ما يعرف بـ "ثورة المتعه " ، متنبئًا أنه إذا كان "العالم الحقيقي" يريد أن يظل في سلام  فانه سيحتاج إلى أن يصبح أكثر متعة.
[14] Thijs Pepping, Menno van Doorn, Sander Duivestein, The Happiness Advantage Digital Happiness, Report 1,sogetilabs technology, Apr 5, 2018, https://goo.gl/5K37LN
 
[15]Nicola Bacon, Marcia Brophy, Nina Mguni,Geoff Mulgan & Anna Shandro, The State of Happiness:Can public policy shape people’s wellbeing and resilience?, Young Foundation, London,Britain 2010 .

Share/Bookmark

اقرأ ايضآ

  • غزة وتوجهات جيل زد نحو تغيير قواعد الحوكمة العالمية
  • أكاديميات ألهمت نهضة أوروبا الحديثة ...المعارف الفلكية الإسلامية
  • الفضاء الإلكتروني وأثره على الأمن القومي للدول: الحروب الإلكترونية نموذجاً
  • كيف يتم صناعة الفقاعات داخل المجتمع في العصر الرقمي ؟
  • الصراع المسلح في الفضاء الخارجي بين التطبيقات والسياسات والمستقبل
  • فيسبوك
    تعليقات


    غزة وتوجهات جيل زد نحو تغيير قواعد الحوكمة العالمية
    كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة عن متغيرات جديدة فيما يتعلق بعملية صناعة وتشكيل الرأي العام العالمي و

    المغرب يدخل عصر صناعة البطاريات الالكترونية
    في خطوة مهمه لدعم الاقتصاد المغربي من جهة وصناعة السيارات من جهة اخرى اعلنت المملكة للمرة الأولى عن

    قانون الأسواق الرقمية الأوربية وحوكمة الشركات الكبرى
    في 6 مارس 2024 دخل حيز التنفيذ قانون الاسواق الرقمية،داخل الاتحاد الاوربي والذي تم اقراره عام 2022

    موضوعات جديدة
    الأكثر قراءة
    الأكثر تعليقا
    الى اي مدى انت راض على اداء المنصات الرقمية في الحرب على غزة ؟
    راضي
    غير راضي
    غير مهتم
     
        
    سيادة الدولة في العصر الرقمي للدكتور عادل عبد الصادق
    التاريخ